"غزة ....و أساطير ممالك البحر المتوسط"
نشوان الغولي
نشوان الغولي

صرح كأنه ممّرد بالقوارير لأعظم الممالك في الأرض . و مرآة لأجمل المدن المتربعة فوق تلال خضراء ، يداعب نسيمه العذب الخمائل و تداعب الجداول العذبة ملحه و ملاحته . على رمال شطئانه اللؤلؤية تلهو الكواعب الحسان و في أعماقه تتضاحك الحوريات .
قطعة مضيئة من اللجين لا يعرف الظلام و لا يتمازج مع بحر الظلمات و (بينهما برزخ لا يبغيان) . هاهو يروي قصة الإنسان اللاهث وراء أطماعه و يكشف للعصور المتعاقبة أسرار النفس البشرية محتفظا في أعماقه بأطلال الحضارة الأنسانية و أنقاض المدائن و رفات السفن المحترقة. ‏في عصر ما كأنه أحس على ظهره بسوط الملك الاسبارطي (ليونيداس) يجلده ثلاثمائة جلدة تعبيرا عن قوته و جبروته ليقدم حياته و حياة فرسانه الثلاثمائة ثمنا لغروره في معركة (الثرومايلي) أمام الامبراطور الفارسي (إكزرسيس) و على ضفافه شمخت (طروادة) بأسوارها العالية و تحصيناتها المتينة و قد غرق أهلها في ملذات الحياة و ترف العيش ليغرقوا بعد ذلك في دمائهم تحت سنابك الخيل الخشبي العملاق و صيحات (أخيليس) ابن (آلهة البحر) و أسطورة (الميثولوجيا) الإغريقية. ‏و فوق لجّته الناعمة الرقيقة وقفت (كليوباترا) أسطورة العشق و الجمال حائرة بين عشيقيها (انطونيوس) و (اكتافيوس). الأول يطمع في قلبها و الأخير في مملكتها . لتعود بعد أن داست على قلبها و تقدم حياتها ثمنا للحب و الخيانة ‏و بذلك ختم (أدونيس) رسالة التأبين الأخيرة على نعش مليكته و عرش المملكة (البطلمية) .
و للمسلمين في بلاد (الأندلس) فردوس العرب المفقود ، قصة من الصراع المرير ابتدأت ب (صقر قريش) و انتهت ب ( الملك الصغير) فهاهي شطئانه البيضاء تروي مأساة العرب (المورة) الذين خرجوا عنوة من (غرناطة) أرض الرمان تاركين وراءهم قصورها الحمراء و حدائقها الغنّاء . و مباركين بذلك زواج الملك (فريدناندوا) و الملكة المتعفنة (إيزابيلا) التي لم تستحم في حياتها الا مرة واحدة و قد أقسمت ان لا يلامس الماء جسدها الا بعد القضاء على الاسلام و المسلمين في (إسبانيا) و في اتفاق باطنه المكر و الخديعة خرج تسعون الفا من العرب المورة متجهين الى ضفاف البحر و فجأة يجدون السفن التي كانت ستقلهم الى الجانب الآخر تحترق أمامهم و خلفهم جيش من المسوخ أعملوا فيهم السيف و امتزج الصراخ و العويل بقهقات المتعفنة ايزابيلا لتستحم للمرة الثانية بدماء الأبرياء مبرئة بذلك قسمها.
انها مجزرة العرب المورة في الاول من ابريل في النصف الأول من القرن الخامس عشر دوّنه القوط للتاريخ يوما مأساويا محفوظا في ذاكرتهم و في رفوف مكاتبهم و أيقونات (كاتدرائياتهم) و بالنسبة للعرب فهو مجرد (كذبة) يختلقونها في كل شهر ابريل من كل عام.
و في ذلك المكان الذي لا تطلع منه الشمس و قبل ان يشعل كاهن (الأراغون) شمعدانه و يتلو تلموده . أسدل البحر الأبيض المتوسط جنح الظلام على الآباد السحيقة و أساطيرها و روزنامة تاريخ لن تتكرر أحداثه ليعود الى الشرق الى أحضان كينونته الاولى و ملاذه الآمن يجذبه اليها فنارها المتوهج أبدا و المُوقد من (شجرة مباركة زيتونة لا شرقية و لا غربية) و هناك ينحني في تواضع جم أمام حاضرة الوجود ليقرأ في لوحها المحفوظ تاريخ ميلاده و يضيف اليه وصيته قبل أوان النضوب . ‏(غزة) ...روح الماء و الولاء ، و أعلى أرض في أدنى الأرض . و أدنى حرمٍ للمسجد الأقصى . و أقدس بقعة في أكناف بيت المقدس .
في صباح سبتها الأول قال الله للذين عدوا فيه (كونوا قردة خاسئين) و في صباح سبتها الثاني صخ طوفانها مسامع أحفاد القردة مرتلا قول الله (فساء صباح المنذرين) . ‏(غزة) ..وجهة القوافل في رحلة الشتاء و الصيف و مثوى سيدها عمرو بن عبدمناف (هاشم) .و قبلة العاديات المسيّرة في رحلة الثبات و الصمود و قادتها أحفاد (هاشم) و أسباط الهاشمي سيد ولد آدم. ‏(غزة) ... في وقعة كربلائية جديدة هاهي تقف موقف الحسين لتنضح دماء أطفالها و ترسل أرواحهم الى السماء مستفتحة بذلك معركة المصير الذي ركز فيه الأعداء بين السلة و الذلة لتصرخ ( هيهات منا الذلة ). ‏(غزة)...منبع الطوفان الذي جرت عليه سفينة نوح حاملة منها غصن الزيتون الى المكان الذي استقرت فيه في يمن الأمن و الأيمان .
(غزة)...لن يتزلزل كيانها ببركة محمد و لن ينقطع عنها المدد القادم من اليمن ببركة محمد. ‏(غزة).... ظاهرها العذاب و باطنها أنفاق تقذف الحمم الملتهبة بأيدي أبطال لا يبحثون عن هيكل مزعوم بل يقذفون الرعب في قلوب الأعداء و يزلزلون الارض من تحت أقدامهم . و لولا قداسة المكان و طهارته لكانت هذه الانفاق مقابر للغزاة و هياكل آلياتهم المدمرة. ذات يوم قال الهالك (رابين) : " أريد أن استيقظ من نومي و غزة قد ابتلعها البحر ) ..هاهو قد نام نومته الأبدية عاجزا عن تحقيق أمنيته . و هاهي (غزة) تستيقظ من جديدعلى ضفاف البحر الابيض واقعا من الثبات و الصمود يروى من فرط إعجازه كالأساطير.

#إتحاد_الشعراء_والمنشدين


في الأربعاء 15 نوفمبر-تشرين الثاني 2023 09:01:56 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=11114