"طوفان الأقصى": خدمة القرن للجيل الجديد
الجبهة الثقافية
الجبهة الثقافية

بهية حلاوي*

وُلدت أختي قبيل تحرير جنوبي لبنان عام 2000. مثلها مثل كثيرين من أبناء جيلها، يسمعون عن المقاومة ويتابعون القضية التي تحملها، لكنّ ثمة فارقاً بين المتابعة الهادئة وبين أن تعيش حرباً صاخبة بوعي وإدراك كاملين. 

هذا الجيل أحبّ المقاومة على رغم أنه لم يعش تجربة الاحتكاك الإعلامي، الذي واكب عملها قبل الانسحاب، ولا يكاد يتذكر تجربة حرب تموز/يوليو 2006، بكل آلامها وعذاباتها، وكذلك انتصارها الاستثنائي.

شعور الأمان الذي اعتاده هذا الجيل، عند زيارة قرانا الجنوبية، صار بديهياً بالنسبة إليه، لكنه يعرف، مع ذلك، بالتواتر وعبر الإعلام، إلى من يعود الفضل في ذلك، ويعرف كيف نمت وتكرّست معادلة الردع، وبأي ثمن وعبر أي جهد. ترعرع أبناء الوطن المحرَّر بفضل تضحيات إخوة لهم في الوطن، ذابوا بصورة كاملة في ترابه، سواء في حياتهم أو مماتهم. كبرت أختي وصارت تتابع الأخبار، لكنها لم تلتقِ الحرب، وجهاً لوجه.

صراع السرديات في معركة الوعي

كل من يدرك أهمية الصورة والسردية في معركة الوعي، التي ترافق جيل أختي الجديد، يعرف ارتباطها العضوي بعملية الأدلجة، فكرياً وثقافياً. طالب هؤلاء، مراراً وتكراراً، بأن يكون لدى أصحاب القضايا المحقة إنتاجات مميزة تؤثّر في أصحاب الفطرة السليمة، وتستقطبهم عبر قوالب جذابة، تعيد من خلالها رسم التاريخ الحديث وصراعات المنطقة، علّ الصورة تساهم في تعزيز الوعي والتعلق بتلك القضايا.

تأتي قضايا التحرير والتحرر في رأس هذه الموضوعات، لكن الأهمية لهذه الموضوعات، معرفياً واستراتيجياً، لا تتلاءم مع المادة المتوافرة في المنصات؟ لذلك، لا يصل الشبّان، الذين يستخدمون هذه المنصات، إلى مواد معرفية غنية وواضحة، عندما يريدون معرفة المزيد.

 تبدو عملية التوثيق والإنتاج بالصورة المطلوبة تحدياً حقيقياً. ولا شك في أن مرحلة ما بعد الإنتاج، وتحديداً الإتاحة والنشر، تُعَدّ أيضاً من المصاعب، في ظلّ  هيمنة المنظومة الغربية، واستحواذ الغرب على عالم صناعة المحتوى، بالإضافة إلى  احتكار البنية التحتية اللازمة للنشر والانتشار.

تزداد أهمية التأثير من خلال المحتوى، في وقت تتراجع النشاطات والمشاريع التي تخدم هذا الهدف. تجرّنا العولمة المتسارعة من كل حدب وصوب نحو الانخراط في دوّامة لا تنتهي من عمليات الاستهلاك والتسطيح، نخسر من خلالها  الدافع الذي ينطلق من قيم النبل والتضحية والشرف والتعاطف والبذل السامي، بعيداً عن التفكير في المكاسب الذاتية المفرطة.

فيما يتعلّق بفلسطين، انتشرت خلال "عشرية النار"، التي عصفت بالمنطقة العربية، كميةٌ كبيرة جداً من الدعايات، التي سعت  لتعويم سردية تخلّي الفلسطينيين عن قضيتهم، في مقدمة لتبرير التخلي العربي، ثم الانتقال إلى ترويج مشاريع التطبيع.

مثّلت وسائل التواصل الاجتماعي إحدى أبرز أدوات التضليل الممنهج، والمستخدَمة من صنّاع الإرهاب، ولا سيما عبر الاستفادة من  شخصيات من "الناشطين" و"المؤثرين". حاول هؤلاء إعادة تعريف السائد والنمطي، انطلاقاً من القِيَم "الأكثر رواجاً"، أو "الأعلى قدرةً على الوصول"، أو حتى الأقدر توظيفاً لأدوات المنظومة الجديدة، من دون حصر العملية في مقوّمات النجومية المألوفة، وأبرزها التميز والجودة.

وهنا، ساهمت   الإنتاجات والأعمال الدرامية، التي حاكت التطبيع و"العيش المشترك" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في إقحام قضايا جدلية جديدة بين الشبّان، تتعلّق بجوهر القضية مثلاً، أو جدوى التطبيع... إلخ، في محاولة لحرف الانتباه وتحويل الموقف المسلّم به تجاه القضية الفلسطينية إلى ملف جدليّ شائك، ومساحة لـ"الإبداع" بالمقاربات من أجل  التأثير في المنصات ونيل الإعجابات.

حاولت شبكة المنصات، عبر انحيازها، ومن خلال مجموعة من المؤثّرين المدفوعين برغبة الشهرة وجني المال ودعم مراكز التطبيع، أن تصوغ وعيَ الجيل الجديد، على طريقة "القَطْع مع الماضي"، وهو الأمر الذي فشل فشلاً ذريعاً.

"سيف القدس": التمهيد الأول

من أبرز مخرجات معركة "سيف القدس"، في أيار/مايو 2021، أنها أظهرت أهمية "الصورة" في رسم معالم النصر والصمود، فيما يخص القضية الفلسطينية، ليس فقط من جانب الشعب الفلسطيني والأطراف الداعمة والمساندة للقضية، بل أيضاً من جهة خيبة الاحتلال الإسرائيلي، الذي عملت أدواته الإعلامية والسياسية والأمنية،  بموازاة العجز الميداني عن كسر المقاومة، على ابتداع ما يُعرَف بـ"صورة النصر"، من خلال الإيحاء الإعلامي في أنه فرض أهدافه على المعركة.

لكن المغاير أن الاستراتيجية الإسرائيلية تلك كانت، إلى حد كبير، ردَّ فعلٍ على ما كانت تتعرض له السردية الصهيونية من تعرية أمام الرأي العام، من جانب  جيل الشباب في فلسطين وخارجها.

على مدى أيام "سيف القدس"، لم تكن الآلة الإسرائيلية تواجه فقط صواريخ المقاومة وثبات شعبها وصموده، بل أيضاً أحقية القضية الفلسطينية في تصدّر المشهد العالمي.

لطالما كان الحديث الإسرائيلي في حينها يدور بشأن تقصير مدة الجولة القتالية قدر الإمكان. لم تكن الأسباب عسكرية وأمنية فقط، بل أيضاً نتيجة إدراك الصهيوني أن عامل الوقت سيصبّ في مصلحة السردية الفلسطينية، التي أخذت مساحة من النقاش والتضامن والمساندة، انطلاقاً من منصات التواصل الاجتماعي، وملأت الشوارع. كانت "إسرائيل" تريد وقف معركة الاستنزاف، ليس في الميدان فقط، وإنما أيضاً في الفضاءات الرقمية للرأي العام.

لعلّ الطريقة، التي برزت فيها السردية الفلسطينية وتقدمت على المزاعم الإسرائيلية في حينها، تعكس الجهة والفئات العمرية التي تقف خلفها. فإذا كان جيل الشباب مستهدَفاً في محاولة تأطيره، أيديولوجياً وثقافياً، كما أسلفنا، عبر تلك المنصات، فإن عملية استحداث الوسائل والمسارات، التي أعطت القضية الفلسطينية زخمها، مثّلت، في المقابل، تحدياً ناجحاً للجيل الجديد، الذي ابتكر أدواته البصرية والمادية في ترويج الحدث على نحوٍ يتلاءم مع مبادئه وتطلّعاته ونظرته إلى الحدث. ونتيجة ذلك، وجد الاحتلال الإسرائيلي نفسه أمام ساحة جديدة من ساحات المواجهة تعرقل خططه في اتجاهين: 

الاتجاه الأول؛ فشله في فرض سرديته وضبط السردية المواجهة. 

الاتجاه الثاني؛ تعرُّضه للضغط الميداني فيما يتعلق بالأهداف، مع انكشاف مزاعمه. 

مهّدت معركة "سيف القدس" لما بعدها، بمعنى أنها كانت بنية صلبة يمكن الانطلاق منها لمراكمة الإنجازات، في هذا السياق. في المقابل، بدأ الاحتلال الإسرائيلي يوجّه استخباراته وأجهزته الأمنية إلى العمل على "معركة الصورة"، بطريقة أكثر جديّة، بسبب ما شكّلته من ضررٍ في المعركة على صعيد الوعي الإسرائيلي والوعي العالمي. 

وعندما نتحدث عن الوعي الإسرائيلي، فإن الأمر يتجاوز "صورة الهزيمة" إلى "إمكان البقاء"، لأن ساحة الحرب، التي خاضها الجيل الجديد في دعمه القضية الفلسطينية، ركّزت، في جانب مهم من جوانبها، على أمن الإسرائيليين المفقود، وعلى افتقار الحكومة إلى متطلبات حمايتهم، وعلى عدم أحقية وجودهم في الأرض الفلسطينية، لأن "الصورة" ضمّت فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 واللاجئين، ولم تكتفِ بإظهار مظلومية فلسطينيي الضفة وقطاع غزة.

عالمياً، لم تنحصر أهمية التظاهرات، التي عمّت مختلف أرجاء العالم في حينها، دعماً للقضية الفلسطينية، وما رافقها في منصات التواصل، في جانبها الجماهيري وشعاراتها فقط، بل في سبب آخر أيضاً ليس أقل بداهة، وهو أن السردية الإسرائيلية لم تَجِد، جماهيرياً وشعبياً، من يناصرها من شعوب العالم في الشرق وفي الغرب.

بهذا المعنى، لم تجد التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية منافساً لها، وبقيت شوارع العالم شبه خالية من أي تظاهرات داعمة لـ"إسرائيل". كذلك، فإن النقاشات والمواد البصرية، في منصات التواصل، لم تعرض السردية الإسرائيلية، بل كانت الأخيرة دائماً في موقع الاستهداف، أو في موضع نقاش، في أقل تقدير. وتشير أغلبية  استطلاعات الرأي إلى أن "إسرائيل" هي الطرف الأقل حظوة بالتأييد الشعبي في العالم.

"طوفان الأقصى": جيل جديد يتعرف إلى جرائم "إسرائيل"

خلال الساعات الأولى لملحمة "طوفان الأقصى"، بقي المشهد ضبابياً بالنسبة إلى كثيرين حول العالم، بحيث تمحور حول سؤالين، هما: ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ 

وبما أن الاحتلال الإسرائيلي يركّز، في استراتيجيته الإعلامية، على التضليل والمراوغة ونفي أي حق للطرف الآخر، فلقد حاول طمس السؤال: "لماذا حدث" ما حدث؟ خلال هذه الساعات، كانت السردية الفلسطينية مهدَّدة، وتتعرّض لهجوم شرسٍ، عبر دفق من المعلومات المزيَّفة التي روجتها "إسرائيل"، وساعدتها فيها، بطبيعة الحال، الآلتان الإعلامية والاستخبارية الغربيتان.

في إطار الرؤية الحديثة للمواجهة، لا تكفي الكتب والإنتاجات لنعرف صورة "إسرائيل" ونعاينها عن قرب، لأن ما تقوم به يكاد يفوق الخيال الافتراضي بسبب  شدة الوحشية التي تمارسها بحق الأبرياء. تتمرّس "إسرائيل" في سفك الدماء، وتتغذى على الترهيب والتعذيب، ثم تتفنن في التستر والتنصل وتضليل الجمهور، من أجل حماية صورتها عبر تقديم نفسها في صورة "الدفاع عن النفس".

تعتمد الآلة الإسرائيلية في ذلك على فرض قراءة للأحداث منذ لحظة وقوعها، وتمهّد لأي عمل قبل ذلك، وتسعى لتبريره وتمريره، ذلك بأنها تلجم أي حديث عن مسببات الحدث، أو المسار الذي أوصل الأمور إليه، في صورته الحقيقية.

هذا ما حدث فعلياً في "طوفان الأقصى". فخلال الساعات والأيام الأولى، كانت "إسرائيل" تروّج ما حدث في يوم الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر على أنه "هجوم مفاجئ وغير متوقَّع"، وهذا مقصود كونه يضع الفلسطينيين في موقف من لا يحق لهم فعل ما فعلوه. لكن، في الجوهر، فإن الهجوم غير المتوقَّع، بسبب فشل استخباري إسرائيلي، هو متوقَّع من الناحية الإنسانية، انطلاقاً من أن "المهاجِم" لا خيار أمامه إلا "الهجوم" على من يقتله ويحاصره ويهدده بالموت البطيء.

والفارق كبير جداً بين فشل "إسرائيل"، أمنياً وعسكرياً، في عدم توقعها الهجوم الفلسطيني، وبين السياقات الإنسانية والثقافية والشعبية، التي تتوقع هذا الهجوم من شعبٍ لا يملك خياراً آخر إلّا المواجهة. 

وبينما يبدع الفلسطينيون الصامدون في  فنون الصبر وأدبيات المواساة والمرابطة، حتى في ظلّ انهيار كامل لأدنى مقومات البقاء في قيد الحياة، فإن مهمة ترويج السردية الفلسطينية، على مدى أكثر من شهر، لم تكن أمراً سهلاً، وكانت في بعض جوانبها مغايرةً عن المعارك السابقة بسبب الحشد الغربي، إعلامياً وعسكرياً وسياسياً، والذي اصطفّ إلى جانب "إسرائيل" اصطفافاً كاملاً. في المقابل، وفي هذه المواجهة تحديداً، يبرز، بصورة لافتة، أداء الإعلام الحربي، إن كان لجهة التوثيق، أو الإنتاج المتطور والسريع، فضلاً عن عملية التوزيع، في ظل الحصار المفروض على مختلف الأجهزة في المنصات.

أصبحت صورة  الإعلام الحربي في غزة، والمواد التي يقوم بنشرها، أشبه بجرعة معنوية مرتقبة، على مدار الساعة، سرعان ما تجتاح المنصات، عبر أشكال ومؤثرات متنوعة، وتبعث الطمأنينة بين الناشطين والداعمين، وتغمر القلوب بالفخر بالمشتبكين من مسافة صفر. تنسحب مشاعر القوة عند الجنوبيين اللبنانيين، وتسهل عملية الثبات في القرى الحدودية في خضم المواجهات، لمجرد أن يلمس اللبناني بطولة المقاومين المتربّصين بالعدو، والشجاعة في تحديد أهدافه واستهدافها.

مسارات المواجهة

مع مرور الأيام، وانكشاف حجم الإرهاب الإسرائيلي في العدوان على قطاع غزة، أدّت منصات التواصل دوراً محورياً في عملية صناعة التأثير وبناء الرأي من جانب الجيل الجديد، والأمر مثّل تحدياً في اتجاهين أيضاً: 

الاتجاه الأول؛ كشف المزاعم الإسرائيلية بشأن فعل المقاومة، وإظهار حقيقة الجرائم بحق الشعب الفلسطيني. 

الاتجاه الثاني؛ تثبيت ملحمة "طوفان الأقصى" على أنها حق فلسطيني، لا يمكن القفز فوقه أو تجاهله عبر ذرائع شتى تُلغي أحقية فكرة المقاومة، وتحاول تمويه واقع الاحتلال.

لذلك، فإن تفنيد الأكاذيب الإسرائيلية بحق المقاومة الفلسطينية في ملحمة "طوفان الأقصى" كان يسير جنباً إلى جنب مع نشر ما هو موثَّق من جرائم إسرائيلية بحق الأطفال والمدنيين في غزة. في المناسبة، لم تكن تلك المواجهة صعبة بسبب تبجّح الاحتلال بجرائمه وضربه بعُرض الحائط جميع المواثيق الدولية أمام أنظار العالم أجمع، لكنها كانت في حاجة إلى منهجية، نظراً إلى طبيعة الخصم الذي يسيطر على آلة إعلامية ضخمة ومؤثرة.

وبين مشاعر الحماسة والمسؤولية والانتماء ونصرة القضايا المحقة، انخرطت الأجيال الجديدة المساندة للقضية الفلسطينية، أو التي انضمت إليها في الجولة الحالية، إلى ما يمكن عدُّه جبهات مواجهة إعلامية، منها ما يأخذ طابعاً دفاعياً، ومنها ما يأخذ طابعاً هجومياً، وذلك من خلال المسارات التالية: 

التوثيق واللغة: المشاهد القادمة من غزة، والتي توضح الهمجية والإجرام الإسرائيليين، كان يجب توثيقها ضمن إطار الزمان والمكان. في مواجهة السردية الإسرائيلية، تعيّن توثيق تلك الجريمة أو المجزرة بحق أطفال أو نساء أو مدنيين عموماً، وتوضيح أين حدثت (منزل، مستشفى، طريق، سيارة) وفي أي ساعة، من أجل إظهار أن ما قام به الاحتلال مقصود ومتعمّد، وأن أهدافه ظاهرة في الضحايا ومكانهم. هذا فضلاً عن صناعة المحتوى التاريخي، الذي يمنع التحريف والكذب الممنهجين، واللذين يغذيان أدوات البحث والارشيف.

وبالنسبة إلى اللغة، فإن الترجمة والترويج، عبر لغات متعدّدة، يجعلان المادة تنتقل ضمن أوسع دائرة شعبية وجماهيرية لها، ليس فقط من أجل الضغط على الاحتلال، بل أيضاً من أجل تبيان كذبه وتضليله لأكبر شريحة ممكنة يمكن أن تتحرك دفاعاً عن السردية الفلسطينية، ورفضاً لمزاعم "إسرائيل" في آن، وخصوصاً بين أبناء جيل الألفية، الذين فرضوا شكلاً مغايراً في عملية الوصول إلى المحتوى واستهلاك الأخبار، وكذلك اتخاذ المواقف بشأن مختلف القضايا.

المطاردة: هنا الحديث عن المطاردة وفق شكلين. المطاردة الميدانية، بحيث لم يكن مطلوباً الاكتفاء بما تقدمه عدسات الكاميرات، بل كانت لافتةً، ولا تزال، المطاردةُ والمخاطرة للحصول على المادة، واللتان خاضهما الجيل الجديد في غزة وخارجها في البحث عن كل ما يمكنه تعرية السردية الإسرائيلية، وإظهار زيفها أمام الرأي العام.

صحيح أن مشاهد الأطفال المقطَّعين بالصواريخ الإسرائيلية كانت تصل وشاهدناها، وكانت تنتشر، لكن هناك جرائم كان يجب وضع جهدٍ أكبر في كشفها ونشرها وترويجها، ولا سيما تلك التي تعمّد الاحتلال الإسرائيلي التضليل بشأنها أو إخفاءها.

على سبيل المثال، جريمة المستشفى المعمداني. وتتضمن المطاردة أيضاً، البحث في عقيدة الاحتلال القائمة على الجريمة، وتبيان طبيعة أهدافه واستحضار جرائم مماثلة، وهي كثيرة، من أجل إثبات أنها نهج معتمد. فالمطاردة الإعلامية، وخصوصاً في منصات التواصل الاجتماعي، تكشف التضليل والكذب اللذين يقوم بهما الإسرائيليون وآلة الدعاية الإسرائيلية، بالتواطؤ مع الغرب.

الإبداع: مع اكتمال التوثيق واللغة وعملية المطاردة للمادة، التي تُظهِر جرائم الاحتلال، فإن النشر يتطلب بعض الأدوات الإبداعية التي تجذب المشاهد والرأي العام، بطريقة مبتكرة، ليس فقط من أجل الصورة، بل أيضاً بشأن طبيعة المنصات التي تُنشَر فيها، والتي تحتاج إلى كل عناصر الجذب، من العنوان، إلى الصورة، إلى ترتيب المَشاهد والصوت وكل ما يرافق ذلك، لأن عامل التأثير هنا مهم جداً.

الترفُّع عن التفاصيل التي تثير التفرقة: لعل هذا الأمر هو تحصيل حاصل، أو مفروغ منه، مع بروز القضية الفلسطينية عاملاً موحِّداً للأمة، في كل أطيافها. لكن، مع وجود عدو يسعى للتفرقة والفتنة، فإن مسؤولية الجيل الجديد مضاعَفةٌ في منع ذلك. والأمر لا يتوقف على الترفع فقط، بل يتطلّب أيضاً ضرب أي منطلقات للتفرقة، ووضعها دائماً في خانة "التعاون مع الاحتلال"، لأنها بطبيعة الحال تعاونه وتسانده. والعمل على ذلك يتطلّب قراءة للثُّغَر التي يمكن أن يعمل عليها الاحتلال، واحتواءَها أولاً، ثم التصدي لها ثانياً، ومنعها من التكرار ثالثاً.

استحضار الشخصيات والنماذج المفيدة: هذا الجانب مهم في دعم الروح المعنوية، وبذلك تعطي القدرة للفرد والجماعة على القيام بما ذكرناه أعلاه، مع الإشارة إلى أن استحضار الشخصيات والنماذج المفيدة يمكن أن يكون عاملاً أساسياً على توحيد الجهود. فالرموز، التي يتم استحضارها واستحضار بطولاتها، مع تبايُن خلفياتها وتنوعها، فكرياً وحزبياً، تُسقط في الدرجة الأولى محاولات التفرقة الإسرائيلية، وتشجع على فعل المقاومة والتصدي، بسبب ما لها من مكانة وصدقية. 

المحافظة على صورة النصر الحقيقي في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر: لعل من أبرز أسباب التضليل الذي يمارسه الإسرائيلي، خلال "طوفان الأقصى"، فضلاً عن الإبادة بحق الأطفال والنساء بصورة خاصة، تشتيت تركيز الجمهور، ومحاولة جعل الصورة القاتمة تسيطر على المشهد، إلا أن الناشطين التفتوا إلى هذه الجزئية، وانعكس الأمر بربط المحتوى والنتائج بالمسبب الأول، وهو صدمة الاحتلال الإسرائيلي وخسارته بعد اقتحام الفصائل المقاومة لمناطق غلاف غزة.

خلاصة

يمكن القول إن إحدى أبرز الخسائر الاستراتيجية التي تكبّدها العدو الإسرائيلي، خلال "طوفان الأقصى"، هي أنه قام بشرح القضية الفلسطينية من الألف إلى الياء للجيل الجديد حول العالم. فحرب الإبادة أظهرت، من جديد، جوهره وطبيعته أمام مرأى العالم. تأتي هذه المعركة لتراكم كمية لافتة من الوعي والتحشيد والمحتوى، على نحو يشكل جبهة موازية لجبهات الميدان والسياسة. 

اللافت هنا أن مسارات المواجهة، على تعددها، استفادت من المحتوى المتوافر من داخل غزة، أو مناطق الغلاف، بصورة أساسية، أي أن   عملية التوثيق وتصدير المنتج البصري اعتمدت على الميدانيين والمواطنين العاديين، إلى جانب الصحافيين ورواد المنصات. وبالتالي، فإن منظومة العمل تعرضت لأشكال متعدّدة من الضغوط، بالإضافة إلى انقطاع شبكة الإنترنت.

وهذا أثّر حتماً في كمية المواد المنشورة ونوعيتها، وكذلك السرعة المطلوبة في المواجهة. وبالتالي، فإنّ المتوقَّع بعد انتهاء "طوفان الأقصى" أن يتمكن الناشطون من الوصول إلى آلاف القصص الإنسانية والمشاهدات الميدانية، التي لم تُنشَر بعدُ، والتي سيتعين على المنتصرين سردها للعالم والمهتمين. وهذا  سيشكل استكمالاً أيضاً لمسار التوثيق وكتابة التاريخ، وتأسيس وعي الجيل الجديد، ولأخذ العِبَر

لا شكّ في أن جدوى العملية هي تراكمية، ويجب البناء عليها، لما بعدها، كما كانت "سيف القدس" قبلها. كذلك، فان ترميم عملية صناعة المحتوى، انطلاقاً من الجدوى والقدرة على التكامل في دعم القضية الفلسطينية لدى الجيل الجديد، يكتسب نجاحاً ملحوظاً نظراً إلى أن عملية صناعة المحتوى تعتمد المنهجية العلمية، و لديها داعم إنساني وثقافي ضخم جداً، وفي الأساس لديها قاعدة شعبية صامدة، ومقاومة تواجه في الميدان.

وهذا كله يجعلها ساحة من ساحات المواجهة، التي تُقلق "إسرائيل" ضمن الساحات الموحَّدة، على امتداد الصراع، عسكرياً وفكرياً. وبالتالي، تحتّم على الجيل الجديد مسؤوليات جديدة ضمن تحديات استراتيجية بعد أن انكشف وجه "إسرائيل" الحقيقي امامه.

 

* نقلا عن :الميادين نت


في السبت 18 نوفمبر-تشرين الثاني 2023 10:23:57 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=11185