قهر وألم وحزن.. لماذا نستثني الرجال من البكاء؟
الجبهة الثقافية
الجبهة الثقافية

لمى غوشة*

كانت ردة فعل الصحافي الفلسطيني الغزيّ  وائل الدحدوح على فقدان عدد من أفراد عائلته صادماً. إذ بدا متماسكاً إلى حد أدهش الكثيرين. فلم نرَ الدحدوح يصرخ باكياً أو ينهار فوق جثامين أفراد عائلته، بل كان بدلاً من ذلك صابراً، معبّراً عن ألمه وحزنه بجملة واحدة.. "بينتقموا منا بالولاد.. معلش". 

رأى بعضهم أن كلمة "معلش" هذه، قد أصبحت مدرجة في قاموس الفلسطينيين اليومي في غزة، خاصة أولئك الذين يعملون على نقل الصورة. فقد مثّلت في وعيهم نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه الصمود، حتى أن البعض وصف وائل الدحدوح بــ "الجبل".

مشهد الدحدوح أمام جثامين عائلته، كما هي المشاهد اليومية المؤلمة في غزة، التي تبدو وكأنها مشهد واحد مكرّر، كان قاسياً بالمعنى الحرفي للكلمة. إذ لم ينتهِ موضوع وائل الدحدوح عند فقدان أفراد من عائلته، بل أمّ صلاة الجنازة بنفسه، قبل أن يعود ليقف أمام عدسة الكاميرا مجدّداً ليستكمل عمله. 

 

شكّل رد فعل الدحدوح، كما العديد من رجالات غزة (آباء، أخوال، أعمام، أطباء، ممرضون، مسعفون وغيرهم)، الذين نشاهدهم عبر مقاطع الفيديو المتداولة بكثرة على مواقع التواصل، نماذج تتفانى في تقديم أفضل ما عندها وبأعلى درجات العطاء، رغم تعرّضهم لخطر القصف والموت في أشدّ المناطق خطورة، وأمام عدو حاقد وبربري.

هذا الواقع المأساوي في غزة، الذي يفوق ما قد تتفتق عنه أكثر المخيلات البشرية نشاطاً، يجعلنا نسأل ونفكر في آليات الصمود لدى الرجال ومحاولاتهم الدائمة كبت انفعالاتهم وتغليف مشاعرهم، علماً أن الألم والقهر الذي يعيشه الرجال في غزة يتساوى تماماً مع قهر النساء والأطفال، ويفوقه في بعض الأحيان.  

فقد كشفت المشاهد المنقولة عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل عن أوضاع نفسية شديدة الصعوبة يمرُّ بها الرجال في العدوان على غزة اليوم. رجال من كل الفئات العمرية والمهنية، شاهدناهم يبكون ويندبون ويضربون رؤوسهم بالجدران. يصرخون بأعلى أصواتهم ويناجون الله ويتوسلون إليه. يودعون زوجاتهم وأبنائهم بحرقة ويكتبون على أكفان أحبائهم. ينبشون فتات الإسمنت بحثاً عن بقايا عائلاتهم وبيوتهم. أمام وضع تتغول فيه آلة القتل الإسرائيلية، يجد الرجال في غزة أنفسهم عاجزين عن الاستمرار في أداء دورهم الاجتماعي المنوط بهم، وهو توفير الحماية لعائلاتهم.

تنطلق هذه المادة من إحساس جمعي بآلام الرجال خلال الحروب، وقهرهم المدفون بين ثنايا عواجل الحرب وضحاياها من النساء والأطفال. وعليه، سنحاول تفكيك هذه المساحة اللامرئية من واقع الرجل في غزة، ونقلها من الهامش إلى المركز، لنؤكد أن الألم في السياق الاستعماري في فلسطين لا يتجزأ، وليس حكراً على فئات بعينها. فالجميع في فلسطين سواسية أمام القهر الذي يسببه الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي منذ أكثر من 75 عاماً. 

لسنا أسطورة 

تتخذ الأسطرة/الأسطورة (الصورة المثالية) في السياق الاستعماري في فلسطين منحنى خطير جداً. فالتعامل مع الفلسطينيين، وتحديداً الرجال منهم في غزة، بصفتهم أساطير يتحملون كل أصناف العذاب والقهر والألم، ويستطيعون التعامل مع كافة أشكال الفقد والموت والحاجة، ينزع عنهم أهم صفاتهم الإنسانية ويجردهم من مشاعرهم وعواطفهم الفطرية وأهمها مشاعر الضعف والحزن والانكسار، ويجعل منهم بشراً فوق الطبيعة.

يسهم هذا التصور الخطير، وغير الواقعي، في خلق شرخ بين فئات المجتمع، بحيث يؤسس لوضع غير سوي إذ نصبح معه أمام فئتين: فئة تضحي وتدفع الثمن باستمرار، وأخرى تراقب وتقيّم من بعيد، فضلاً عن حرمان الضحية من التعبير عن تعبها وألمها.  

في هذا السياق، كتب محمود جودة؛ وهو غزي مهتم بقضايا الإرشاد النفسي والتربوي على صفحته على "فيسبوك"، محاولاً نزع صفة الأُسطورة عن الغزيين: "كل خطاب بيحول الغزي لأسطورة هو خطاب أناني عاجز يجردنا من إنسانيتنا، لأن الأسطورة أصلاً غير موجودة وتم اختراعها من قبل العجزة ليلقوا عليها الحمل كله، لأنها أسطورة وقادرة على فعل الصمود والانتصار دون أي مقدمات".

ويُضيف: "لا أساطير في غزة، نحن بشر ونبحث الآن عن الخبز والماء والوقود وساعات نوم وحمام ومكان نغسل فيه الثياب، ووقت نحزن فيه وندفن الآلاف الضحايا: هل رأيتم أسطورة في الدنيا تبحث عما سبق".

تأتي كتابة جودة من منطلق إنساني بحت، فهو يريد من العالم التعامل مع الغزيين بصفتهم بشراً لا أساطير، والقول إن إظهار الضعف لا يتنافى أبداً مع مبدأ الصمود، ولكنه حاجة فطرية مشروعة لا فرق فيها بين ذكر وأنثى. 

لماذا نستثني الرجال من الألم والبكاء؟ 

في مقالة له بعنوان " لنتحدث عن: الذكورة والحرب" يضع البريطاني هيوغو سليم يده على إحدى مفارقات عصرنا الحديث، وهي: "مع أن الرجال هم الشخصيات الرئيسية على مسرح الحرب والمعارك منذ عهد يتجاوز قدرة الذاكرة البشرية على استدعاء مخزونها، إلا أن النقاش في زمننا الحالي حول الذكورة (masculinity) وعلاقة الرجال بالعنف، ما يزال محاطاً بالحذر والتحفظ، بل ومهمش إلى حدٍّ ما". 

ويضيف: "من سيغموند فرويد مروراً بآنا أرندت، ألقى المفكرون في العصر الحديث نظرات مبتكرة ونقدية على مسألة العنف البشري. غير أن ندرة وجهات النظر المهمة وزوايا النظر المستجدة لمسألة العنف وتبعاته من منظور النوع الاجتماعي تصيب المتابع بخيبة أمل إلى حدٍّ ما. لعلها واحدة من محظورات النظام الأبوي". 

ويبيّن سليم، أن" من المستحيل تقريباً إظهار الحزن الإنساني من دون توجيه الانتباه إلى المعاناة التي تتكبدها النساء ويئن تحت وطأتها الأطفال. في الخطب التي تلقى وفي العمليات التي يضطلع بها العاملون في المجال الإنساني، يشكل النساء والأطفال جلَّ المستفيدين من  المساعدات الإنسانية والوجوه التي تيسر جمع تبرعات طائلة في المؤتمرات الدولية".

 

في هذه المواقف، لا تحظى المشاريع التي تصمم للتعامل بشكل خاص مع معاناة الرجال في الحرب سوى باهتمام محدود للغاية. وهذا على الرغم من طبيعتها الخاصة: "فالرجال، قديماً وفي الوقت الحالي، هم في النهاية من ضحايا الحرب أيضاً (ولعلهم ضحايا بدرجة أكبر في الحروب الأهلية في عالم اليوم). فهم ضحايا بحكم دورهم كمقاتلين – هم في الغالب مشاركون غير طوعيين، يتعرضون إلى جميع صنوف المخاطر والأهوال التي تزخر بها أرض المعركة – وبحكم دورهم كمدنيين، أيْ أدوارهم كآباء وأعمام وإخوة وأبناء، ممن يئنون تحت وطأة ألم فقدان الأحبة، وفي ظروف أشد رعبًا وفوضى يرون ديارهم وممتلكاتهم تلتهمها نيران الحرب". 

من جانبها، تقول أستاذة العلوم السياسية غادة المدبوح، والمحاضرة في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية: "يكثر الحديث عن ظلم الاستعمار الاسرائيلي واستباحته للأطفال والنساء! ولعله وفي أوقات الحروب وأوقات الفواجع والنائبات خاصة، يدور الحديث عن صمود الرجال دوماً، وكأن الشعور بالألم والحزن والقهر والتعبير عنه منافي لصفات الرجولة والصلابة".

وتضيف في مقابلة مع " الميادين الثقافية": "هذا الاقصاء والاستثناء للألم والقهر الذي يمر به الرجال قد يكون مرده محاولة بعث الاطمئنان للأمة بأنها "مسنودة"، وبأن الرجال لا تحزن ولا تستكين! ولعل الكشف والتعبير عن هذا الألم بالذات وإعطاءه مساحته الشرعية هو شفاء الاحرار وهو السند الحقيقي لنا جميعاً! ولعل التضامن المجتمعي بين الرجال والنساء والاطفال والنحيب معاً على الفقدان هو وقود المقاومة! هذا الألم الذي يمر به الرجال الغزيون اليوم حري بأن يعبر عنه ويقدس ويمجد! فهذه أمة اليوم تعيش إبادة جماعية مفتوحة وحداداً مكشوفاً ومتواصلاً جنباً إلى جنب مع الرغبة في الحياة، بل وأشد من ذلك، جنباً إلى جنب مع "صناعة الحياة"".

 أما لينا معاري، المختصة في العلوم الاجتماعية والسلوكية، فتشير إلى أن استثناء الرجال من الألم له سياقات تتعلق بالخطاب الإعلامي. 

وتقول إن: "استثناء الرجال أو الذكور من القهر والألم يتضح ويبرز في المستوى الخطابي والإعلامي ومن خلال التصريحات، لكن على أرض الواقع وبالحقائق، فإن حجم الألم والقهر نراه من خلال الصور المنتشرة بشكل كثيف عن الرجال المقهورين، الباكين، الذين يحملون أطفالهم ويركضون بهم. وبالتالي هذا الخطاب لا يعكس الواقع، وأعتقد لأسباب ذكورية، فالواقع تجاوز هذا الخطاب بمراحل، والدليل كل ما نراه من صور ومقاطع تصل من غزة، وتوثق ألم الرجال فيها". 

من جانبه، يرى طارق مطر، المختص في المجال النفسي، أن أسباب غياب الحديث عن القهر الصامت والألم المكتوم الذي يعيشه الرجال في وقت الحروب والأزمات؛ هو أمر مرتبط بشدة بالثقافة والراتبية الاجتماعية التي ينشأ فيها الرجل في المجتمع الفلسطيني.

 

ويقول لــ " الميادين الثقافية" إنه: "حين نتحدث عن مجتمع غزة فإننا نتحدث عن مجتمع شرقي يحتل فيه الرجل هرمية وسلطة أعلى من المرأة التي تحتل مكانة التابع في السلم النفسي والاجتماعي بالنسبة للرجل. هذه التراتبية الممتزجة بتصورات متوارثة وطويلة عن الرجل والمرأة، تمنح للمرأة الحق في التعبير عن حزنها وألمها بطرق متعددة عبر النحيب والبكاء واللطم، فيما ينكر هذا الحق عن الرجل (فالرجل يجب أن يتحمل الألم، ومن العيب إظهار ضعفه، والرجل يتألم بصمت، وعليه أن يبقى متماسكاً حتى لو ألمت به المصائب)".

وعليه، فإن هذا الفهم "يخرج الرجل من إنسانيته كونه خارج الألم والعذاب والاحساس العاطفي، كما يجعل منه أقل قدرة وحريّة في التعبير عن مشاعره، وتفريغ شحنات الغضب والقهر بداخله، وهو ما ينعكس بأشكال نفسية أكثر حدة. إمّا باتجاهات تدميرية ذاتية بالمعنى النفسي والتي تنعكس بالمرض أو الحزن والاكتئاب الصامت وفقدان الرغبة في الحياة أو من خلال ممارسة العنف ضد الغير. 

وبالتالي؛ يعاني الرجال الفلسطينيون خلال الحرب من أمرين، الأول: مرارة التعذيب والقهر الجماعي الناتج عن عنف المٌستعمِر المباشر، والثاني: مرارة العجز الناتج من عدم قدرته على توفير الحماية لعائلته. هذا العجز الذي تبنيه المفاهيم الذكورية في عقله.

في المحصلة، يمكننا أن نرى في دموع الرجال والظاهرة، وخوفهم الصريح، وصراخهم المباشر في وجه كل أدوات القهر الاستعمارية التي تُمارس ضدهم، بأنها نوع وشكل من أشكال الصمود أيضاً.

وعليه، يُفهم الصمود اليوم على نطاق واسع كمفهوم يشتمل على عدد كبير من الأفعال المتنوعة التي يقوم بها الناس في مواجهة سياسات الإلغاء. ويُعبّر عنه في المقولة المألوفة "الحياة لازم تستمر"، وتمّ تفسيره كذلك كأسلوب حياة، كمحرّك لأفعال يومية ضد الرضوخ، أو كطريقة وجود فلسطينية مناهضة للاستعمار.

في المجمل، تجمع هذه التعبيرات بين صاحب الفعل المقاوم وغرض المقاومة بطريقة تجعلهما كشيء واحد: فالمقاومة هي شكل من أشكال الحياة، والجسد نفسه هو المقاومة ومصدرها.

* نقلا عن :الميادين نت


في السبت 09 ديسمبر-كانون الأول 2023 01:00:56 ص

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=11685