نماذج تحتاج تغييرا جذريا
عبدالرحمن مراد
عبدالرحمن مراد
نتحدث هذه الأيام عن التغيير الجذري، والكثير يتصور ذهنيا أن التغيير الجذري مصطلح يخص الحكومة ويخص الصف الأول من المسؤولين في الدولة، وهذا تصور خاطئ لا يمت إلى جوهر التغيير ولا حقيقته بصلة، فالتغيير يبدأ من هدم الصورة النمطية للأشياء وإبدالها بغيرها، لأن تكرار الصورة الثابتة في الذهن هي ليست أكثر من استمرار للماضي الذي رسم في أذهاننا تلك الصورة، فالمسؤول الذي يرى المنصب مغنما وترفا ويحيط نفسه بكتيبة مرافقين ويضع هاتفه لدى أحدهم حتى يرد على الاتصالات ويقابل اتصالات الجهات والأشخاص وذوي الحاجة بسلوك اللامبالاة هذا يحتاج إلى تغيير جذري لأنه من المحال أن تتغير الصورة في ذهنه، أو أن تخاطبه بالتي هي أحسن، كما أنه يتعامل مع القضايا بترف ذهني وأخلاقي غير مقبول وقد يحاول تبرير أفعاله بتحميل الغير مسؤوليتها وتلك ظاهرة تنتشر كالنار بين الهشيم عند الكثير في أيامنا هذه، والمسؤول الذي يتفلسف في مصطلح التغيير ويتحدث عن العبر والعظات من سير الأولين حتى إذا جئته في مجال عمله وجدته مستبدا متسلطا حاجبا نفسه عن حوائج الناس غير متقبل للنقد ولا قادر أن يقدم نموذجا سويا في الحياة، بل يدعي العلم والمعرفة والإحاطة بكل شيء ويقوم بإقصاء الكفاءات بحجة أنها غير مؤمنة ولم يشاهدها تصرخ، مثل هذا المسؤول يحتاج إلى تغيير جذري فهو نموذج يحمل تحت إبطيه طاغية وانتهازيا ومستغلا ويعمل على تشويه المثاليات والفضائل لأنه يدعيها وسلوكه وتفاعله بعيد عنها.
الكثير يعيش حالة ازدواج اليوم إذ تراه يسلط الضوء على رذائل الماضي ومثالبه ويسرد قصصا وحكايات ويشتم ويسب ويلعن الماضي ثم تجده ليس أكثر من امتداد غير شريف لذلك الماضي فقد يتجاوز الماضي بأفظع منه سلوكا وأخلاقا وانحطاطا قيميا لكنه لا يرى إلا صلاح نفسه وتعاليه دون أن يشعر بجوهر ما هو عليه، هذا النموذج يحتاج إلى تغيير جذري لأنه يشكل خطرا على الفضائل وعلى القيم النبيلة التي ينشدها الناس حتى تتوازى الحالة الاجتماعية مع الحالة السياسية والعسكرية التي وصلنا إليها اليوم.
والمسؤول الذي يحضر فعالية أو نشاطا ثقافيا ثم يترك الناس غاضبا بسبب أن الآخر لا يعرفه أو يجهل اسمه، أو لم يرحب به من يدير الفعالية أو النشاط الثقافي أو التوعوي، هذا يحتاج إلى تغيير جذري لأنه يشكل خطرا على السلام النفسي والأخلاقي كما أن غروره دال على خواء وعدم فاعلية، فكل نرجسية أو غرور ليس إلا دلالة على معادل موضوعي، فالدونية والشعور بالنقص لا يمكنهما تقديم نموذج حياتي جميل ولا يعكس وجها مشرقا لأي مكون سياسي أو اجتماعي أو ثقافي.
والمسؤول الذي يثير غبارا وضجيجا ويحدث جلبة في المضمار العام ثم إذا خفت الجلبة وانقشع الغبار لم تجد شيئا ذا بال، هذا النموذج يحتاج إلى تغيير جذري لأنه يفسد من حيث يريد الإصلاح فهو كائن فوضوي بيروقراطي لا يملك فكرة ولكنه يحاول أن يتشبث بالأشياء كونها مصدر رزق ليس أكثر.
والمسؤول الذي لا يعلم شيئا في أبجديات الإدارة ولا قوانينها ولا نظمها ثم تراه يدعي العلم والمعرفة يحتاج إلى تغيير جذري لأنه مدع وكذاب أشر لا يعترف بحقيقة نفسه، ولا بقدر نفسه، ولا بحدود معرفته، فهو لا يرغب أن يتعلم، ولا أن يعرف، وهو نموذج غير سوي معيق لحركة الحياة، ومفسد للكثير من جوانب الحياة.
هذه النماذج وغيرها تحتاج إلى تغيير جذري، وهذا التغيير لا يمكنه التحقق دون أن يكون هناك توجه قيادي يمارس دورا رقابيا يوجه وينظم ويعدل ويضبط وفق معيارية أخلاقية ثابتة، والتوجه السياسي يحتاج إلى برامج إصلاح ثقافي وأخلاقي، ونهضة فكرية وثقافية ولا بد أن يعيد بناء العقل النقدي بناء موضوعيا وفق رؤى منهجية وعلمية يستطيع من خلالها ترتيب نسق الأفراد والجماعات والمكونات، فالصراع طبيعة بشرية، والحوار المستمر تصحيح مستمر، وكل ذي مصلحة محارب جسور، ويدعي علما ومعرفة حتى تستمر مصالحه في التدفق، ومن النادر أن تجد متجردا للحق أو للمثل إلا من رحم الله، فكم من ذي لحية مسبلة ومصبغة تحدث واقعه عن فظائع، وهناك نماذج من أولئك وهم قلة وأهل الحق والفضائل والمكارم والمروءة لا تجدهم إلا قلة في كل عصر وزمان.
ومن المهم الإشارة هنا إلى فكرة الكليات الخمس عند فقهاء أهل السنة وفكرة الأصول الخمسة عند فقهاء الشيعة إن أردنا مجتمعا فاضلا ونزيها وكريما، فالحاجات البيولوجية أساس في بناء مجتمع فاضل أو أقرب إلى الفاضل، فالإنسان تحكمه الضرورات وبتوفر الضرورات يمكن توجيهه إلى مسار الفضائل، وبتوجه الإنسان إلى مسار الفضائل يخلق مزاجا عاما محبا للفضائل، وحين يكون غالب الناس محبين للفضائل، فنحن قد صنعنا الضرورة التي تفرض نفسها على مجالات الحياة، وبالتالي قد أحدثنا تغييرا جذريا، وخلقنا تصورات ذهنية بديلة للصورة النمطية للأشياء، ومثل ذلك لن يتحقق إلا بنهضة ثقافية وفكرية وحراك متعدد الاتجاهات وببرامج دورية وفصلية وبرامج بعيدة المدى وقصيرة المدى، ولا بد من الانفتاح على الكل لأنك تحكم الكل.

* نقلا عن : لا ميديا


في الأحد 17 ديسمبر-كانون الأول 2023 09:06:02 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=11876