"يا حلولبنا".. لماذا استخدم الفلسطينيون الاغاني المشفّرة؟
الجبهة الثقافية
الجبهة الثقافية

جمال سامي عواد*

 

من روحها، أنجبت المرأة الفلسطينية فنّها الخاصّ وأغنت الثقافة الفلسطينية بأجمل الأغاني والأشعار والأثواب والأطباق. إذ إنّ معظم  الأغاني التراثية الفلسطينية ذات مواضيع إنسانية تخص المرأة بالدرجة الأولى، وتتعلّق بالكوارث والحروب والأزمات، التي كانت تؤذي أقرب الناس إلى قلبها. 

ولذلك فإن استجابتها لهذه الأحداث كانت سريعة جداً، لأنها حارسة شعلة الحياة التي اختارتها إرادة الخلق العليا، تماماً كما صوّرتها الميثولوجيا القديمة في هذه البقعة من العالم.

هكذا، ومن ألوان الغناء الفلسطيني، نتعرّف اليوم إلى ما يعرف بـــ"الترويدة". وهي نوع من الأغاني الشعبية البسيطة التي أبدعتها المرأة الفلسطينية، وأسبغت عليها صفاتها كأنثى أولاً، وكفلسطينية ثانياً. 

ويعتقد غالبية الباحثين أنها ظهرت في أواخر العهد العثماني. وهناك خلط بين اعتبارها قالباً موسيقياً حزيناً جداً ومليئاً بالدموع، كما يقول عبد اللطيف البرغوثي في كتابه "الأغاني الشعبية العربية في فلسطين والأردن"، 1979، وبين اعتبارها مجرد تسمية للأغنية الفلسطينية عموماً، أو تلك المرتبطة بالمرأة بوجه خاص. وهذا ما تذهب إليه الفنانة والباحثة الفلسطينية سناء موسى، وهو الرأي الأقرب إلى الواقع، نظراً لتنوّع مواضيع الترويدة بين الفرح والحزن.

واقعياً، نجد في  التراويد مواضيع هامة تتعلّق كلّها بالحياة والجمال. فمن التروايد ما يتعلق بولادة الأطفال ورعايتهم مثل "التهليلة" (أغنية المهد)، ويرتبط أيضاً بمساهمة المرأة في مواسم الحصاد وقطاف الزيتون. إضافة إلى أغاني الحب، أو أغاني التفجّع على زوج أو أخ أو أب أو ابن استشهد أو غاب كــ "الشلّاعات". 

كما أنّ للزواج وتقاليده أيضاً أغاني تناولت كل تفاصيله من الخطبة إلى حفلة الحنة والزفّة والانتقال إلى بيت الزوج مثل "المهاهاة"(اويها). وهناك نوع متمايز بوضوح بين هذه المواضيع، وهو اللون المسمّى "مولاله"، وهي الترويدة المشفّرة التي تعتبر من الخصائص الطريفة والغريبة للأغنية الفلسطينية التراثية.

المولالاه

هي أغنية شعبية ولدت مع الحاجة لهذا التشفير بحكم الظروف الأمنية والسياسية والتقاليد الاجتماعية. فقد كان السجناء والثوّار يتبادلون الرسائل في ما بينهم وبين أهاليهم بواسطة هذه الأغاني، التي تمّ تشفير كلماتها بإضافة مقاطع صوتية إضافية ليست من أصل الكلمة، مثل اللام ألف أو اللام واو أو اللام ياء، وبشكل لا يفهمه إلّا المعنيون به.

ومن أشهر الأغاني المشفّرة، ترويدة "شمالي" الموجّهة إلى سجناء الاحتلال البريطاني لإخبارهم بقرب موعد تحريرهم من قِبل الثوّار، ومن بعض كلماتها:

شمالي لالي يا هوالي لديرة شمالي لالي يا رويللووو (شمالي يا هوا الديرة شمالي).

عا للي بوابهولولم تفتح شمالي يا رويللووو (على اللي بوابهم تفتح شمالي).

وأنا ليليلبعث معليلريح الشمالي لالي يا رويللووو (وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي).

 يا صليلار ويدور ليللي على لحبيليلابا يا رويللووو (يوصل ويدور على الأحباب).

أما في موضوع التراويد العاطفية المشفّرة، كالحب والغزل بما هما موضوعان أنثويان بامتياز، اشتهرت منها ترويدة الخليل وتقول كلماتها: 

يا حلولبنا، يا حلولبنا، (يا حبنا)
يا طيليري (طيري) خذ مكتولوبنا (مكتوبنا)
 حطللي غربال، شيللي غربال

 مرجولوه (مرجه) رمان لحلوبنا (لحبنا)

تتميّز الترويدة عموماً بالبساطة الشديدة من حيث الكلمات، إذ غالباً ما تكون مؤلفتها امرأة بسيطة أنشدت على سجيتها بكل صدق وبساطة ما يعتمل نفسها من عواطف متنوّعة، على قوالب زجلية شائعة ومقامات شرقية تقليدية شائعة، كالبيات والسيكاه والحجاز والراست، مع إيقاع ثنائي أو رباعي يتماشى مع المقسوم أو البلدي بسرعة تختلف بحسب مزاج الترويدة. 

وبالرغم من أن هذه الطريقة في تشفير الحديث ما زالت شائعة في بعض اللهجات الفلسطينية المحلية، إلا أنها تعرّضت إلى النسيان بعض الشيء بسبب صعوبة حفظ "المولالاه" من قبل الفتيات من الأجيال الحديثة. 

من تراويد الأعراس وأغاني الفراق إلى التهليلة  

لن تفوت مناسبات كالأعراس المخيلة الإبداعية للمرأة الفلسطينية، لأنها مناسبات للفرح وتمتلئ بالطقوس والتقاليد، مثل "التجلية" "الزفة"،" والحنة"، و"التوديعة". 

ومن الأغاني المتعلّقة بهذه المناسبة ترويدة "انت ابن مين ياللي جسرت عليي" من قرية معليا في شمال فلسطين، من مقام البيات وإيقاع الدور الهندي، والتي تعتبر تقليداً من تقاليد فخر العروس بنسبها إذ تتحدّى العريس بالقول:

انت ابن مين ياللي جسرت (تجرأت) عليي
أهلي حمولة وكلهم عُصْبية.
ما يلبسوا غير المرصع بالذهب
ما يركبوا إلا الخيول محدية.

ومن الطقوس الأنثوية التي ترفض الاندثار في الثقافة الفلسطينية، طقوس الحنة وما يرافقها من أغانٍ، ويعود هذا الطقس إلى أصول قديمة جداً موغلة في ثقافة الحضارات التي قامت في هذه المنطقة، والتي تتعلّق بطقوس الخصب والتجدّد والانبعاث. ومن أغاني هذا الطقس ترويدة "يا مريام": 

مدّي دياتك يا مريام .. مدّي دياتك ياهييه 

كد خياتك نحبك .. كد خياتك ياهييه

 يا جرار الزيت يا مريام يا جرار الزيت ياهييه

تطلعي من البيت يا خسارة .. تطلعي من البيت ياهييه.

أما الفراق فيعتبر من المواضيع الأكثر حساسية عند المرأة على الإطلاق. إذ نجد الكثير من الأغاني التي تتحدّث عن فقدان الأزواج والأبناء والإخوة والأحباب، سفراً أو استشهاداً أو حبساً. 

ومنها على سبيل المثال، موضوع "سفر برلك"، بما يتضمّنه من أغانٍ تتناول ألم الفراق والفقدان، أو الخوف منه، كان له الأثر الواضح في الأغنية التراثية المعبّرة عن حزن المرأة التي تقول: "ياللي ساقولك ولفك على سفر برلك"، أو أغنية "عالأوف مشعل" التي تقول في كلماتها: 

عالأوف مشعل أوف مشعلاني... ماني تبلّيته، هو اللّي تبلّاني

شفت واحد واقف جنب البركة... حاكيته عربي جاوبني بالتركي

نسوان بتحكي والأطفال بتبكي... مع مين نحكي تركي أو ألماني

عالأوف مشعل أوف مشعلاني... مع السلامة يا ربعي وخلّاني.

وكان لنغمة الحجاز والصبا النصيب الأكبر من أغاني هذا النوع لما لهذه الأجناس من قدرة على بث عاطفة الحزن.

أما التهليلة فهي نوع مميّز وكثيف في التراث الفلسطيني، حيث كان تنويم الأطفال من الفرص الملائمة جداً لبوح وترميز أعمق مكنونات نفوس الأمهات، عبر لحن شديد الهدوء والحنان والشجن، لذلك كانت نغمة البيات والحجاز هما النغمتان المسيطرتان تقريباً عليها. 

ومنها التهليلة الشهيرة المنتشرة في كل بلاد الشام "عالتشة التشة التشة"، و"لرسل سلامي لسالم". تقول كلمات إحدى التهليلات الشهيرة: 

"نامت عيونك يا يمة وعين الحقّ ما نامت 
رغم القلوب اللي قسيت ولا لانت
مهما الزمان علينا جار 

عمر شدّة على مخلوق ما دامت".


أخيراً... لا يمكننا إلا أن نتساءل اليوم، عن المقدار الأسطوري من الشجن الذي ستحمله تهليلات الأمهات الفلسطينيات في المستقبل، بعد أن نام آلاف الأطفال نومتهم الأبدية تحت قصف الاحتلال الصهيوني الهمجيّ. 

* نقلا عن :الميادين نت


في السبت 30 ديسمبر-كانون الأول 2023 06:17:31 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=12207