الإزاحات الأميركيّة وآفاقها المسدودة
الجبهة الثقافية
الجبهة الثقافية

موفق محادين*

وفق الجغرافيا السياسية التي عادت بقوة كحقل يحدد مصير العالم انطلاقاً من فكرة البريطاني ماكندر حول قلبي العالم، الهارت لاند الروسي والشرق أوسطي، فإن واشنطن الإمبريالية التي بات مؤكداً خسارتها معركة أوكرانيا، وبالتالي الهارت لاند الروسي، لن تسلم بسهولة بخسارة الهارت لاند الثاني في الشرق الأوسط.

إلى ذلك، ثمة التباس أو خلط بين عدم استعداد واشنطن لمواجهات على مستوى الإقليم والمنطقة وإزاحات تحت السيطرة تصرف الانتباه عن جرائم العدو والتواطؤ الأميركي معها في غزة، وتنفخ مجدداً في نار التحريض الطائفية، وتحول محور المقاومة من عنوان لصفحة المجد الدامية الحالية والتفاف قطاع كبير من الرأي العام العربي والعالمي حولها إلى عنوان لأزمات داخلية، كما حدث في اختلاق أقلام الاستخبارات الأميركية والصهيونية ظواهر إجرامية تكفيرية، مثل داعش.

إن عدم استعداد واشنطن لمعركة هنا قد تتقاطع مع أزمات عالمية أخرى هو مسألة واضحة وتعكس مؤشرات قوية على تآكل أهميتها وتدخلاتها السافرة الوقحة المعروفة، بيد أن ذلك لا يعني عدم استعدادها ورغبتها في استخدام ألاعيبها المعروفة بتحويل التناقضات الأساسية معها ومع ربيبتها الصهيونية إلى تناقضات ثانوية واللجوء إلى إزاحات مشبوهة دارجة منذ عقدين على الأقل.

بالتوازي مع المحاولات الأميركية للإمساك بآفاق الصراع على الهارت لاند الشرق أوسطي، تعتقد واشنطن وأذرعتها الصهيونية والإقليمية والعربية أن نقل المعركة إلى جبهة أخرى، على رأسها طهران، يقلل الحرج العالمي والعربي من مشاركتها العدو الصهيوني في جرائمه وعدوانه على قطاع غزة، ويغطي مشاركة أوساط وعواصم عربية ودولية في أي سيناريو أميركي – صهيوني للعدوان على الجبهة الشمالية أو اليمن.

وليس بعيداً من ذلك ما يجري على أكثر من حدود صرفاً للانتباه عن العدوان الصهيوني على غزة وبذرائع مختلفة، مثل الأمن البحري الدولي والأمن الحدودي وغير ذلك.

وبالرغم من أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة وموضوع التناقض التناحري الأساسي مع العدو الصهيوني، فمن المؤسف أن ينجح العدو ومعه الإمبريالية الأميركية في اختلاق تناقضات بديلة.

ولعل أخطر اختراق صهيوني – أميركي لهذا القانون هو الذي جرى خلال حرب الخليج الأولى واختلاق الجبهة الشرقية مع إيران، وهو الاختلاق الذي لا يزال قائماً، والذي تجري تغذيته بأشكال شتى من التعبئة الطائفية إلى الحملات السياسية المعروفة، ومن ذلك المحاولات الصهيونية – الأميركية لإزاحة طوفان الأقصى في غزة نحو تناقضات بديلة، كما سنرى إلى جانب إزاحات داخلية عرفتها المنطقة بعد معركة الكرامة 1968 وتموز 2006.

 الآفاق المسدودة شمالاً وجنوباً

من غزة إلى أوكرانيا، تعيش واشنطن كما تل أبيب، أزمات سياسية استراتيجية مستعصية تتغذى من الأزمات البنيوية الداخلية المتفاقمة التي تتأثر بدورها بالأزمات السياسية الخارجية، فداخل كيان العدو الصهيوني المجرم تتسع التصدعات الاجتماعية بين الأشكنازيم الذين يعرفون باليهود الغربيين (مصطلح إشكالي) ومحاولاتهم تكييف ثقافة ليبرالية مع صهيونية فاشية، والسفرديم الذين يعرفون باليهود الشرقيين، ومعهم رعاع المستوطنين الذين تحولوا إلى عصابات وميليشيات مسلحة، والذين يخلطون ثقافتهم الحاخامية مع الصهيونية الفاشية أيضاً.

وتتفاقم أشكال من الهجرة تهدد الكيان برمته؛ هجرة نحو الخارج أغلبيتها من اليهود الأشكنازيم، وهجرة من الغلافين الشمالي والجنوبي نحو تل أبيب، وذلك بعد السابع من أكتوبر في الغلاف الجنوبي، وبعد عمليات حزب الله شمالاً.

أما أميركا، فتعيش أسوأ أيامها. وقد دخلت مرحلة التحذيرات المبكرة (بول كنيدي ونشوء الدول وسقوطها) وبريجنسكي، وخصوصاً كتابه "أميركا بين عصرين"، إذ تتسع المساحة بين تداعيات الثورة المعلوماتية والبنى التقليدية للصناعة والعمالة، ناهيك بالصعود الكبير لخصومها، روسيا والصين، وبإقرار العقل الإمبريالي نفسه، بريجنسكي، بأن عالم الجيوبوليتيك القادم يعمل ضد واشنطن.

إلى ذلك، وفيما يخص واشنطن وتل أبيب ومعركة غزة، وبالأحرى حرب غزة التي يصبان عليها نار جهنم بلا جدوى، في سياق محاولات استئصال المقاومة كامتداد لمحور المقاومة، فهما في وضع عالمي وإقليمي محرج للغاية؛ ففي مقابل أوهام البحث عن خيارات أمنية وسياسية تحت عنوان ما بعد حماس، أي محور المقاومة في الحسابات الأميركية والصهيونية وعرب واشنطن، والاستغراق في هذه السيناريوهات عبر مشاريع وضغوطات وتصورات وتحليلات قوى ومنابر إعلامية مشبوهة معروفة، فإن مؤشرات الفشل الأميركي – الصهيوني الاستراتيجي تزداد يوماً بعد يوم، مع كل تورط إجرامي ضد المدنيين من جهة، ومع الخسائر الكبيرة للعدو من جهة ثانية، ومع ازدياد الاعتراف بصعوبة استئصال المقاتلين الأبطال من حماس والجهاد وبقية الفصائل وما يحتلونه في قلب محور المقاومة.

وقد بات مرجحاً أن أقصى ما يمكن للتحالف الأميركي – الصهيوني أن يفعله، ومعهما المنظومات السياسية العربية والعالمية الذليلة، هو الحد من نفوذ حماس والتوصل إلى ترتيبات بمشاركتها، وليس تصفيتها أو إخراجها من القطاع أو تجريدها من سلاحها.

أما الفشل الكبير الثاني فهو في شرق آخر، وهو شرق أوروبا، أي في أوكرانيا منذ أن سقطت 2014 بيد تحالف نازي مع (إيباك) أوكراني يهودي بزعامة زيلينسكي. وقد تجلى التحالف الأمركي – الصهيوني هناك:

أولاً: عبر أوكرانيا المتصهينة ضد الاستراتيجية الروسية الأوراسية، وهي الاستراتيجية المنبثقة – في مفارقة ذات دلالة – من قراءة أميركية لبريجنسكي منبثقة بدورها من الجغرافي البريطاني، ماكندر، وملخصها أن أوراسيا ستقرر مصير العالم، ومن يسيطر على قلبها (الهارت لاند)، أي روسيا، يسيطر على العالم.

وثانياً: في التوظيف الصهيوني للوبي اليهودي في كييف والدينبر من أجل إقامة أوكرانيا الإسرائيلية، وكما خسائر العدو الصهيوني في غزة، فالخسائر العسكرية الكبيرة لجيش المحمية الصهيونية – النازية الأوكرانية تؤشر على اقتراب العملية العسكرية الروسية من النجاح في غضون عام، واقتراب موسكو من حسم الصراع هناك، وهو ما يعني تصدع المعسكر الإمبريالي الأمريكي – الأوروبي، ومعه الناتو، وانعكاس ذلك على ربيبتهم الصهيونية.

ومما سيساعد على هذا التصدع عملية النهب والاستحواذ الأميركي على قطاعات اقتصادية كبرى، سواء بالأسعار العالمية للسلع والمنتجات الأميركية البديلة من الطاقة الروسية أو بهروب قطاعات وخطوط إنتاج أوروبية إلى الأسواق الأميركية، ناهيك بأن قارة الثورات البرجوازية الأوروبية ونظريات العقد الاجتماعي والثقافة المركزية الأوروبية والقانون الدولي والدولي الإنساني، باتت أقل سيادة إزاء واشنطن من عشرات الدول في "العالم الثالث"، وهو ما يعني توقعات بانفجارات شعبية واسعة في أوروبا من أجل إعادة التوازن والحضور في المشهد الرأسمالي نفسه.

وثمة مؤشرات على هزة وشيكة كبيرة في ألمانيا تحديداً التي تراجعت من موقع التنافس مع الصين على صدارة الاقتصاد العالمي، ودخلت مناخات تشبه الإقصاء الفرنسي لها في القرن التاسع عشر، فمن المعروف أنَّ ألمانيا اليوم بقيادة اليسار الاجتماعي والخضر قبل أخذها إلى مستنقعي أوكرانيا والتواطؤ مع الصهيونية في غزة كانت تعتمد في صعودها على موارد روسيا وأسواقها وطاقتها بأسعار تفضيلية.

انطلاقاً من ذلك، من المتوقع أن يحاول التحالف الأميركي – الصهيوني الالتفاف على كل هذه التحولات بشكل أو بآخر وتحت عناوين وذرائع مختلفة والبحث عن تناقضات وحدود بديلة أميركياً لصرف الانتباه والتعويض عن الحلقات والساحات المستعصية في أوكرانيا والكيان الصهيوني من أجل توسيع التورط الأميركي أكثر فأكثر.

وفقاً لما يجري من تصريحات وتوترات حدودية في المنطقة، يبدو محور المقاومة كله، الشعبي والرسمي، في عين الإزاحات المتوقعة:

- تحت عنوان الأمن الدولي البحري وتوريط أكبر عدد ممكن من الدول، إيلاء أهمية استراتيجية لأنصار الله في اليمن كخاصرة استراتيجية لمحور المقاومة والبحث عن الأشكال الملائمة لتطويقهم والتحريض عليهم، بالنظر إلى أهمية الجغرافيا التي تقع في نطاق تأثيرهم، والتي تتعدى السواحل اليمنية حول البحرين الأحمر والعرب إلى المجالات البحرية الأوسع التي تمسك بمفاتيح قسم حيوي من التجارة العالمية، ناهيك بنقلهم اليمن الكبير (الشمالي) إلى محور المقاومة.

الحضور الكبير لأنصار الله والقوات المسلحة اليمنية وتموضعهم في محور المقاومة لا يقتصر موضوعياً على مدخل البحر الأحمر، بل يتعداه أيضاً إلى بحر العرب الذي يمسك بمفاتيح رأس الرجاء الصالح ودلالات ذلك في حال توسع العدوان الأطلسي.

- تحت عنوان الأمن الحدودي، إعادة فتح الملف السوري (إذا كانت طهران قائدة محور المقاومة، فإن سوريا قلبه، كما أن حزب الله والمقاومة العراقية وغزة وأنصار الله في اليمن قوته الضاربة). وتتراوح سيناريوهات العودة إلى الملف السوري بين الضغط على مكامن الإنهاك الاقتصادي وبين ضربات ذات بعد لوجستي وبين سيناريو التقسيم القديم الذي يتضمن أيضاً مشروع الإقليم الصحراوي الذي يمتد إلى أقسام واسعة في البادية في الأردن والعراق ارتباطاً بالتوطين الصحراوي وتأمين مساحة واسعة لانتشار القواعد الأميركية.

وكذلك محاولة استعادة سيناريو البافر ستيت العازل الذي سبق أن جربته أقلام الاستخبارات الأميركية والبريطانية خلال العشرية السوداء ضد سوريا، سواء عبر إمارة القاعدة بين سوريا ولبنان في القصير أو عبر إمارة داعش في الرقة، وصولاً إلى المحاولة الأخيرة لإقامة بافر ستيت صحراوي عمودي بذريعة ملاحقة التهريب.

- أما الاستهداف المباشر لكلٍّ من إيران وسوريا، فتكاليف تصعيده باهظة جداً وصعبة أيضاً، ولن يتجاوز ثقافة الاغتيالات الخسيسة والتكتيكات المشابهة، ولا سيما أن أي مغامرة أوسع من ذلك تشكل تهديداً كبيراً للبيت الأبيض المقبل على انتخابات تميل منذ الآن إلى مصلحة الجمهوريين، ولكن مهما بلغت مستويات هذه المحاولات ضد عواصم المحور، كما ضد أنصار الله وحزب الله شمالاً والمقاومة العراقية بين التصعيد العسكري والإعلامي والابتزاز السياسي، فإنها لن تطال المفاصل الأساسية للمحور، ولا يمكن التأسيس عليها، بل إن الفشل هو الأقرب إليها، بالنظر إلى اعتبارات عديدة ناجمة عن الإرباكات الاستراتيجية للقوى الأساسية أو عن محدودية القوى والأطراف الأخرى.

ولم يعد بمقدور واشطنن وربيبتها الصهيونية المجرمة أن تفعل أكثر مما فعلت سابقاً ضد أطراف المحور. ومن المؤكد أن رصد مئات المليارات لذلك، كما في السابق، لم يعد متاحاً أيضاً.

ويشار هنا إلى أن أطراف محور المقاومة تمتلك في كل مجالاتها عناصر وإمكانيات فعالة للردع من السيطرة على ممرات البحر الأحمر ورأس الرجاء الصالح إلى سهولة استهداف القواعد الأميركية نفسها إلى استهداف حيفا كميناء يعول عليه في كل المشاريع الاستراتيجية، مثل مشروع طريق الهند، إضافة إلى خزانات الأمونيا، ومثله العديد من الموانئ في البحر الأحمر وبحر العرب ومجالاتها الحيوية البعيدة.

يشار كذلك إلى أن جرعة التحشيد الدولي والإقليمي، المالي والعسكري والإعلامي، باتت أضعف كثيراً، بما في ذلك محميات النفط والغاز المسال التي إما أنها استنزفت بلا طائل وإما تراجعت مصالحها المباشرة، والباقي قوى وأطراف تدخل في باب التفاصيل.

ولا ننسى أن القضايا التي استحوذت على اهتمامات دولية وإقليمية وفي بعض أوساط الرأي العام صارت صغيرة جداً أمام ما يجري في غزة، سواء فيما يتعلق بالصمود الأسطوري للمقاتلين أو فيما يتعلق برد الفعل الإجرامي الصهيوني ضد الأطفال والنساء والمستشفيات والبنى التحتية المختلفة، ما ضيق الخناق كثيراً على الجبهة الإعلامية العالمية التي ظلت لوقت طويل تحت سيطرة الميديا الإمبريالية.

* نقلا عن :الميادين نت


في الجمعة 26 يناير-كانون الثاني 2024 12:21:37 ص

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=12265