"أحرار أخيراً".. عن أدب جنوب أفريقيا خلال قرن
الجبهة الثقافية
الجبهة الثقافية

يوسف م. شرقاوي*

"حلم النهضة الأفريقية لا يزال قائماً، في ظل وجود مبادرات تلتزم تنمية أفريقيا ومسؤولية مستقبلنا، وهذه المسؤولية ليست فقط للقادة السياسيين، لكنها أيضاً مسؤولية الكتّاب والفنانين والمثقفين في القارة، فهم رواد تلك النهضة"، نيلسون مانديلا.

***

يطرح مصطلح  الأدب الأفريقي عدة إشكالات تتعلق بالجغرافيا والقومية واللغة والثقافة. وجاءت حديثاً عدة قراءات وأطروحات حاولت تقديم تصور جديد للمعيار الذي يمكن من خلاله إطلاق مصطلح الأدب الأفريقي، سواء معيار اللغة كحاضن للإبداع، أو انتماء مُنتِج الأدب نفسه. 

سُمّي عام 1960 عام أفريقيا، إذ خرجت فيه من إطار الاستعمار المباشر 18 دولة أفريقية، وامتدّت ثورة الحرية من القاهرة شمالاً إلى كيب تاون جنوباً، ومن تناناريف (عاصمة ملاجاشي) شرقاً إلى لواندا (عاصمة أنغولا) غرباً. مع ذلك، ظلت بعض الجيوب الاستعمارية تصارع حتى تحررت بعد ربع قرن. وفي عام 1990 تحررت ناميبيا، ولم تبق إلا جمهوية جنوب أفريقيا، التي تخلصت من نظام الفصل العنصري، وقال  نيلسون مانديلا عند انتخابه: "أحرار أخيراً".

يبحث علي شلش في كتابه "الأدب الأفريقي" (سلسلة عالم المعرفة، العدد 112، سنة 1993) معنى هذا الأدب، وحدوده الجغرافية والثقافية، وهل يمكن قبول تقسيمه أم لا. يعرض من أجل ذلك تنظيرات لنقاد وباحثين غربيين وأفارقة، ثم يقول إن: لا سبيل إلى استقامة معنى المصطلح (الأدب الأفريقي) إلا إذا أعدناه إلى معناه الكلي البديهي الذي يشمل شمالي القارة وجنوبيها سواء بسواء. وتساءل أديب جنوب أفريقيا مازيسي كونيني: ما الأدب الأفريقي؟ هل هو أدب منطقة تم تحديدها عاطفياً على أساس قاري؟ وأعلن عداءه للمعنى الإقليمي للمصطلح، وانتهى إلى أنّ الأدب الأفريقي هو "الأدب الذي يصور واقعاً أفريقياً، في جميع أبعاده، وهذه الأبعاد لا تضم ألوان النزاع مع القوى صاحبة السيطرة السابقة على القارة فحسب، وإنما تضم أيضاً النزاعات داخل القارة الأفريقية".

بهذا المعنى الموضوعي، يمكن أن ننظر إلى الأدب الأفريقي في كليته كأدب قارة، أو في جزئيته كأدب إقليم معين أو منطقة معينة. نحاول هنا عرض تاريخ ونماذج عن الأدب في جنوب أفريقيا، سواء المكتوب باللغات القومية للمنطقة، وهي 11 لغة، أو باللغات الأجنبية للبلاد المستعمِرة، مثل الإنكليزية والفرنسية والبرتغالية، ووفقاً لانتماء منتِج هذا الأدب.

السوتو والزوسا والزولو

يُعَدّ توماس موفولو (1876 - 1948)، الذي كتب بلغة السوتو، رائد محاولات كتابة رواية ناضجة فنياً، وأكثر الكتّاب أصالة ونضجاً. وكانت أولى رواياته بعنوان "مسافر الشر"، ظهرت في كتاب عام 1907 وترجمت إلى الإنكليزية. والرواية شديدة الصلة بتراث الحكايات الشعبية في بحثها عن المعارف والحقائق عن طريق التجوال.

ثم اختار موفولو موضوعاً صعباً هو قصة حياة _ ومأساة _ ملك الزولو، المعروف باسم "تشاكا". وكتب روايته "تشاكا، ملحمة تاريخية"، وانتهى منها في عام 1911، لكنها لم تنشر حتى عام 1925، والتي ألهمت عدداً من الكتّاب الأفارقة على مدى أعوام. وقال أحد النقاد إنها أول مساهمة أفريقية كبيرة في الأدب العالمي، بينما يقول شلش عنها إنها تعكس ذوبان مؤلفها في التراث الشعبي، ومنحه من مَعين المداحين والأغاني والسير البطولية، إلا أنها عجزت عن الصمود أمام التطور الفني الكبير الذي حققته الرواية في جنوب أفريقيا بعد ذلك، ولم تتقدم الرواية المكتوبة بلغة السوتو (لغة رواية موفولو) بسبب التفرقة العنصرية.

لكن حدثت تطورات مشابهة في بعض اللغات المجاورة للسوتو في الجنوب، إذ ظهرت رواية جيدة في لغة الزوسا عام 1914 بعنوان "قضية التوءم" لصامويل مقايي (1875 -1936)، وهي رواية اجتماعية عن الحياة في الجنوب قبل وصول البيض.

أما في لغة الزولو فتُعد الرواية التاريخية، "دنسجوايو بن جوبي"، لبنيدكت فيلا كازي (1906 - 1947) أفضل ما أُنتج في هذه اللغة، ولمؤلفها رواية أخرى بعنوان "إلى الأبد" تناولت موضوع الهجرة من الريف إلى المدن.

حاول مازيسي كونيني (1930 - 2006) الذي نُفي من جنوب أفريقيا سنة 1959، أن يكتب بلغة قومه الزولو، وأثمرت محاولاته شعراً ونثراً، فضلاً عن ملحمته الشعرية "الإمبراطور تشاكا العظيم". ولا بد من ذكر الشعر المكتوب باللغة الأفريكانية المشتقة من الهولندية، لغة المستوطنين الأوائل، وهي وقف على البيض، إلا أنّ آخرين يستخدمونها أيضاً.

ومن أبرز شعراء هذه اللغة يوجين ماريز ولويس لايبولت وشيلا كاسونز وإنجريد يونكر وبريتين بريتنباخ. يمثل الثلاثة الأخيرون الجيل الذي ظهر في أواخر الخمسينيات، ويُعَد بريتنباخ أشهرهم، إذ سجن 9 أعوام بتهمة الاشتراك في الإرهاب (الكلمة البديلة من العداء للتفرقة العنصرية).

ملحمة حياة الأهالي في جنوب أفريقيا منذ 100 عام

ظهرت أول رواية مكتوبة بالإنكليزية من جنوب أفريقيا عام 1930، للكاتب سولومون بلاهيكي (1877- 1932). كتب في البداية بلغته الأم تسوانا، ثم تعلم الهولندية والفرنسية والألمانية، فضلاً عن الإنكليزية التي ترجم منها إلى لغته 5 مسرحيات لشكسبير.

كما أنشأ أول صحيفة بلغة قومه عام 1901، وانتخب أميناً عاماً للمؤتمر الوطني للأهالي الأفريقيين عام 1912، وذهب إلى لندن للاحتجاج على قانون الأراضي الذي دعم التفرقة العنصرية. أما روايته فهي منجزه الأدبي الوحيد، وحمّلها عنوان "مهودي، ملحمة حياة الأهالي في جنوب أفريقيا منذ مئة عام"، وتضمنت قصة حب بين بطل قومي وفتاة من الأهالي غمرهما الصراع الدموي الذي عقب مقتل ملك الزولو تشاكا، ورواها بلاهيكي بأسلوب الحكاية الشعبية، وضمّنها كثيراً من الأغاني والأمثال. وكتب في تقديمه لها: "كاد أدب جنوب أفريقيا حتى الآن (وقت كتابة الرواية) يكون أوروبياً خالصاً، ثم تبدو المقدمة ضرورية لتوضيح الأسباب التي أدت إلى هذه المغامرة الوطنية... لقد أُلف هذا الكتاب لهدفين نتطلع إليهما، وهما: أن نشرح للجمهور القارئ عبارة واحدة، هي "مؤخرة العقل الوطني"، وأن نجمع بنقود القراء ونطبع حكايات ستشوانا الشعبية، التي تتعرض للنسيان السريع، مع انتشار الأفكار الأوروبية".

أما بيتر أبراهامز (1919- 2017) فقد كانت تجربته الأدبية خصبة، سواء في "أنشودة المدينة" أو "صبي المنجم" أو "درب الرعد"، و5 روايات أخرى أو أكثر. وهو ليس الوحيد من جنوب أفريقيا أو بلاهيكي اللذين كتبا بالإنجليزية، فقد ظهر بعدهما عدد كبير من الكتّاب (السود والبيض كما يقول شلش)، مثل ألكس لاجوما وسارة جرترود ميلين وأوليف شراينر ونادين جورديمر ودوريس ليسنج وألن باتون المشهور بروايته "ابكِ أيها البلد الحبيب"، وعدّها الناقد حزقيال مفاليلي "أول عمل في تاريخ الفن القصصي في جنوب أفريقيا يظهر فيه الإنسان الأسود في صورة مبكرة"، وكل هؤلاء باستثناء باتون نساء، وكنّ يُقمن جميعاً بجنوب أفريقيا.

ساعدت مجلة "الطبلة"، التي ظهرت في جنوب أفريقيا عام 1950، على ظهور جيل جديد من الكتّاب بالإنكليزية، أشهرهم ريتشارد رايف وبلوك موديساني وحزقيال مفاليلي الذي أشرف على باب القصة في المجلة، وكتب عنها: "أثار ظهورها (أي المجلة) واتساع مجالات المجلات الأسبوعية - وكلها يتجه إلى القارئ غير الأبيض تقريباً - نشاطاً هائلاً في الأدب".

ويُعد مفاليلي من أشهر كتّاب القصة في جنوب أفريقيا، ويسمى عميد الأدب الأفريقي. حصل على الماجستير بعنوان "الشخصية غير الأوروبية في القصة الإنكليزية" عام 1956، له عدة مجموعات قصصية وكتابان في النقد وكتاب سيرة ذاتية "في الشارع الثاني" وبعض القصائد ورواية عنوانها "التائهون".

سقوط الأبارتهايد والهوية الجديدة

مع سقوط الأبارتهايد عام 1990، احتار كتّاب جنوب أفريقيا فيما خلّفه نظام الفصل العنصري والصراع للتخلص من آثاره، والتحول إلى هوية وطنية جديدة.

من بين كتّاب الجيل الجديد يبرز اسم ماري واتسون (1975)، الحائزة جائزة كين للأدب الأفريقي عام 2006، عن مجموعة قصصية ترجمها إلى العربية عمرو خيري.

في السياق نفسه، حازت الكاتبة نادين جورديمر جائزة نوبل عام 1991، عن كتابتها ذات الطراز الحقوقي الإنساني المناهض للعنصرية، ولها قرابة 30 كتاباً، كما وصفت بسيدة نساء الأدب الأفريقي. حاربت من أجل إطلاق سراح مانديلا، ومنعت حكومة الفصل العنصري عدداً من كتبها، وكانت على علاقة وثيقة بنجيب محفوظ. إذ كتبت المقدمة الإنكليزية لكتابه "أصداء السيرة الذاتية"، وكانت آخر رواياتها "لا وقت كالوقت الحاضر" عام 2012.

أما ثاني كتّاب جنوب أفريقيا الحاصلين على نوبل، عام 2003، فهو ماكسويل كوتزي، الذي تُعد روايته "انتظار البرابرة" من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين، واقتبست سينمائياً عام 2019، إذ تمثل الرواية مرآة لكشف مكائد الأنظمة القمعية.

ويحظى أدب جنوب أفريقيا بنصيب كبير من قائمة علي مزروعي بـ"فضل مئة كتاب أفريقي"، والتي اقترحها في معرض زيمبابوي الدولي للكتاب. ولجنوب أفريقيا من القائمة 18 كتاباً، ضمنها كتاب "تشاكا" لتوماس موفولو، الأمر الذي يعني أنّ أثر قرنٍ من الزمن ظلّ حاضراً، وأنّ ملحمة الأهالي في جنوب أفريقيا رُويت على أكمل وجه، طوال قرنٍ كامل، ولا تزال تُروى.

* نقلا عن :الميادين نت


في الجمعة 26 يناير-كانون الثاني 2024 12:32:26 ص

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=12267