عن العدالة الدولية والمحكمة
الجبهة الثقافية
الجبهة الثقافية

نورالدين اسكندر*

في لاهاي لم يكن الحدث عادياً هذه المرة. وليست النتيجة، في هذه المرحلة، هي الأكثر بروزاً. إنها "إسرائيل" التي تحاكَم أمام العالم الآن بجريمة إبادةٍ جماعية، لم تُدَن فيها حتى الآن قانونياً، لكن العالم أجمع، بشعوبه وحكوماته ومنظماته وشجره وحيواناته، يعلم بأن فعل الإبادة حدث جارٍ على يد الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة بصورةٍ مستعجلة منذ أشهر أربعة، وبصورة مستمرة منذ بداية احتلال فلسطين في عام 1948.

إنها "إسرائيل"، رأس جسر العالم الغربي في خاصرة العالمين العربي والإسلامي، ومرض المنطقة الذي سمم جسدها طوال ثمانية عقود مضت، وتسبب بأمراض أخرى لا تزال تعانيها الدول والشعوب، وجعلت منها منطقة ضعيفة المناعة وقابلة لكل أنواع الإصابات الخطرة في صحتها وحياتها ومستقبلها. الآن، توضع "إسرائيل" في القفص، وتُتهَم بما تفعله علناً، وبمبادرة عالم – جنوبية، لا عربية ولا إسلامية. 

إنه تحول ظاهر في الصورة، مصدره تحول في عمق نظرة العالم إلى "إسرائيل"، وأهم من ذلك، أنه تعبير عن اتجاهٍ مستقبلي للصورة والسمعة الإسرائيليتين. بهذا المعنى، وإلى جانب النتائج العسكرية في الميدان، فإن الحرب على غزة وصمة لا تمحى عن وجه هذا الكيان، الذي يحتاج إلى إعادة إنتاج نفسه بعد الحرب، بصورةٍ مغايرة تماماً لتلك التي صاغها لنفسه، وتساهم المحاكمة في ترسيخها له، للأعوام المتبقية قبل تفككه. فلو كانت "إسرائيل" شركةً تجارية، لنُصحت الآن بتغيير اسمها وهويتها، لتحافظ على أعمالها.

محكمة العدل الدولية طلبت في قرارها الأولي، في شأن الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل"، وتتهمها فيها بارتكاب "إبادة جماعية" في قطاع غزة، إلى الكيان "المنع والمعاقبة" للتحريض على الإبادة، وإدخال مساعدات للقطاع المحاصر.

موقف جنوب أفريقيا كان صارخاً في برية العالم، مطالباً بقرار وإجراءاتٍ عاجلة تتضمن وقفاً للعمليات العسكرية في قطاع غزة. ومع أن القرار لم يلحظ ذلك، إلا أن جوهر الدعوى لا يزال متفاعلاً، ويمتد مع الوقت.

ومع أن هذا الوقت يمكن أن يطول، سيبقى جوهر الدعوى حاضراً في تفكير الشعوب حول العالم، وسوف ترسخه "إسرائيل" بنفسها من خلال إصرارها على ارتكاب الجرائم بصورة دائمة، لتثبّت الادعاءات التي تتضمنها الدعوى.

كان واضحاً، خلال الأشهر الماضية، أن المقاومة المسلحة في فلسطين، وفي الجبهات الأخرى، ومقاومة المدنيين الفلسطينيين داخل غزة، تعطيان العالم دورةً تثقيفية حقيقية بشأن أحوال منظومات الحكم في العالم، وواقع المؤسسات الدولية، والسياسات الخارجية للدول الكبرى، بالإضافة إلى إعادة تثقيف سياسي عالمي النطاق بشأن حقائق القضية الفلسطينية، وأحقية الشعب الفلسطيني في أرضه. الآن، من خلال المحكمة، نحن أمام دورة أخرى، وحلقة جديدة فتحت على تعليم العالم معنى أن يمارس كيان، يصفه ما يسمى المجتمع الدولي بـ"الدولة"، الإبادة الجماعية.

قد تستمر التحقيقات في جرائم الإبادة أعواماً، لكنها فرصة في أن تتحول أحداث هذه الأعوام المرتبطة بالمحكمة إلى حالة اتهام دائمة لـ"إسرائيل"، التحدي الأكبر فيها أن تبقى ملتهبة ومثيرة للمشاعر كما في وقت تنفيذ الإبادة، وألّا ُتترك للبرود أمام اشتعال أحداث جديدة.

أمّا الآن، فالتدابير التي طلبت المحكمة اتخاذها بصورةٍ عاجلة لا تكفي لوقف المجزرة المستمرة، والمساعدات الإنسانية التي أمرت المحكمة بإيصالها لا تصل بكمياتٍ كافية من أجل وقف المجاعة التي تحيط بالفلسطينيين في غزة، وهذا بالتحديد جزء أساسي من فحوى الدعوى، ذلك بأن الإبادة تنفَّذ بوسائل متنوعة، منها القتل جوعاً أو مرضاً أو تجمداً.

المحكمة قالت إن على "إسرائيل" اتخاذ "إجراءات فورية وفعالة للسماح بتوفير خدمات أساسية ومساعدة إنسانية يحتاج اليها الفلسطينيون في صورة ملحّة لمواجهة ظروف العيش غير الملائمة". وإن عليها أيضاً "اتّخاذ جميع الإجراءات الممكنة لمنع التحريض المباشر والعلني على ارتكاب إبادة، والمعاقبة عليه"، و"عليها أن تمنع كل أعمال الإبادة المحتملة في قطاع غزة".

اللافت أيضاً في هذه الدعوى أنها ترد التاريخ إلى الوراء، لتصنع مفارقةً أصبحت صارخة مع مرور الأعوام، فهي تتهم "إسرائيل" بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها المبرمة في عام 1948، كرد عالمي على محرقة اليهود في إبان الحرب العالمية الثانية.

والوصمة التي ترسخت على الهوية النازية بكل ملامحها، والتي تم التعبير عنها عملياً بمحاكمات نورمبيرغ بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بحظر الأفكار النازية حول العالم، يمكن لهذه المحاكمة أن تَصِم الكيان الإسرائيلي بعار الإبادة قبل صدور الأحكام، ذلك بأن آليات عمل المحكمة تستند إلى أدلةٍ قانونيةٍ وتقنية دامغة، بينما لا يستطيع أي من الخبراء المحايدين الوصول إلى مكان الجريمة في التوقيت الحقيقي، الأمر الذي يجعل مسرح الأحداث وموضوعها خاضعين لسيطرة الاحتلال، الذي يرتكب الجريمة، وخاضعين بالتالي للتغيير والطمس. ثم إن استمرار الحرب الهستيرية على غزة لا يترك لأهل القطاع فرصة جمع الأدلة الضرورية وتوثيقها وبناء ملف قانوني وتقني يتلاءم مع حجم الحقيقة التي تحدث.

أما محاكمة الشعوب، فأمامها الصورة تكون أقل تكلفاً وتعقيداً. الشعوب بحاجة لترى آلة القتل تمارس عملها، وقادتها يتباهون بذلك، ثم أمامها أيضاً تصريحات المستويين السياسي والعسكري في "إسرائيل"، واللذين يصران على التعبير عن نيّات واضحة في تنفيذ الإبادة أو التهجير القسري، وصولاً إلى تهديد جميع سكان غزة بالإبادة الجماعية عبر استخدام الأسلحة النووية.

لكن، من ناحية أخرى، لا بد من قراءة المواقف بشأن قرار المحكمة بواقعية، توازي واقعية الأذى غير القابل للترميم، والذي تحدثه هذه الدعوى على صورة الكيان وسمعته حول العالم، بحيث إن الكيان الإسرائيلي لا يزال حتى اللحظة موكلاً أدواراً وظيفية غربية شديدة الأهمية في سياق محاولة الغرب المحافظة على دوره القائد للنظام الدولي. وهذا ما يفسر مسارعة المسؤولين الغربيين إلى التغطية بالتصريحات المضادة لاتجاه إدانة "إسرائيل" في لاهاي. موقف الولايات المتحدة يصرّ ويعيد التشديد على أن اتهامات جنوب إفريقيا لـ"إسرائيل" بخرق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية. هذا لا علاقة له بالأدلة والموقف والحقائق، بل له علاقة وحيدة بهوية مرتكب الجريمة ووظيفته بالنسبة إلى واشنطن. 

ثلاثة عشر أسبوعاً تم خلالها توثيق ارتكابات تشمل خرقاً للاتفاقية أعلاه، وتم خلالها جمع ادلة لا تقبل الشك، تظهر نمطاً من السلوك والنيات في ارتكاب أعمال الإبادة، بحسب المحامية في فريق جنوب أفريقيا عادلة هاشم.

وزارة الخارجية في جنوب أفريقيا وصفت القرار بعد صدوره بـ"الانتصار الحاسم" للقانون الدولي و"خطوة في طريق الأميال الألف في البحث عن العدالة للفلسطينيين". وهو فعلاً كذلك، وخصوصاً أنه أتى بمبادرة من عالم الجنوب، ضد الحليف الأكثر شمولاً بحماية عالم الشمال، وحضارته الغربية تحديداً.

وهذا بالتأكيد وجه من وجوه الصراع الدائر الآن، والذي تتسع إليه الأزمات الإقليمية. لكن الحرب على غزة، بتفاصيلها المروعة، تخطت شكل الأزمة الإقليمية التي تعني مجموعة من الدول المجاورة، وأضحت حالة عالمية تمس مصالح الدول الكبرى من جهة، وتمس أكثر مشاعر كل إنسان وإنسانيته، أينما كان، من جهة ثانية. إنها امتحان في الوقت نفسه، إنسانياً وسياسياً. فالإنسانية لا تتجزأ، ولا يستوي أن يثور العالم لمقتل مجموعة من الأشخاص في جريمة ما في الغرب، وأن يتجاهل أو يبرر في الوقت نفسه جرائم "إسرائيل" المستمرة.

تأثير دعوى جنوب أفريقيا بانَ، عبر زخمه الشديد، في ردود الفعل الإسرائيلية العنيفة. مستوى التعليقات ونوع الكلام المستخدم يدلّان على ضخامة الاستحقاق الذي يواجهونه. رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو وصل إلى حد القول "إن العالم انقلب رأساً على عقب"، فكيانه معتاد على النجاة من كل جريمة، ولم تحاسبه العدالة الدولية منذ دير ياسين حتى قانا، في محطتيها، وبينهما سلسلة طويلة وغزيرة بالدماء العربية. نتنياهو ألمح إلى أنه لن يكون ملزَما بتنفيذ قرار المحكمة، قائلاً: "لن يوقفنا أحد، لا لاهاي، ولا محور الشر ولا أي جهة أخرى".

ما بعد المحكمة

مع سير المحاكمة، لن يعود تبرير دعم "إسرائيل" سهلاً كما كان في السابق، وخصوصاً بالنسبة إلى الدول الغربية. مسار آخر يتضح مع الوقت، وهو أن مجرد طرح هذه القضية سيشجع دولاً في المستقبل على التقدم خطوة من أجل استعادة العدالة، في وجه الولايات المتحدة، وفي مناطق أخرى من العالم. الدعوى ضد "إسرائيل"، في هذا المعنى، هي كسر للمحرمات. وما دامت تجري في مناخ عالمي من الإدانة لـ"إسرائيل"، كان ظهر مرتين في أغلبية ساحقة في الأمم المتحدة، فإنها تُعَدّ نموذجاً يحتذى لأصحاب الحقوق ضد الهيمنة الإمبراطورية.

هذا فيما يخص المحكمة، أما العدالة، في مفهومها الأخلاقي، فيمثلها موقف جنوب أفريقيا أكثر مما يفعل حكم المحكمة. ويمثلها موقف الشعوب في الشوارع وفي المنصات، ويمثلها المقاتلون في شوارع غزة وأنفاقها، وفي بنادق وصواريخ مشعلي الجبهات في لبنان واليمن وضد القواعد في العراق وسوريا. وأبعد من ذلك، تبزغ العدالة من أفريقيا، في صحوة القارة، عبر دولها وشعوبها، ضد الاستعمارين القديم والجديد، والعدالة ظهرت ملامحها في الهيئة العامة للأمم المتحدة، وفي المجتمع المدني الحقيقي حول العالم، وفي مجتمعات الطلاب والأكاديميين الذين خاطروا بمصالحهم لاتخاذ موقف محق.

أمّا الإبادة، فهي سيرة "إسرائيل" الدائمة، وصنيعة حلفائها من مجتمع الأقلية العالمي، وأصحاب منظومات العقوبات على الشعوب، والمؤسسات المالية العالمية المفلسة للدول، والقيم المنحرفة. وهذه بذاتها وسيلة انتحار وإبادة.

وبين العدالة والإبادة، فريق ثالث، عنوانه الخذلان. هؤلاء تمثلهم المواقف التطبيعية، والضغط على المقاومات وتحمليها مسؤولية كثرة الشهداء بدلاً من تحميلها للقتلة، والتركيز على الفاتورة الإنسانية من باب مسؤولية المقاومة بدلاً من مسؤولية الاحتلال، وعبر تعميم منطق الضعف وقلة الحيلة، وطلب السلام من الوحوش.

لكن، في هذه الحرب، يبقى الموقف الأكثر إثارة للغضب لأي إنسان يحتفظ بشعوره الإنساني وحسه السليم، هو الموقف الأميركي القائل: نحن في حاجة إلى وقف إطلاق نار، لوقت كافٍ، من أجل إطلاق سراح الأسرى، لكننا لا ندعم وقف إطلاق نار عامّاً.

كيف يتوقعون أن يكون ذلك واقعياً؟ أن تعرض على قوة مقاوِمة وشعبٍ محاصَر وقف إطلاق نار من أجل تسليم من لديهما من أسرى، وفي الوقت نفسه تقول إننا ندعم مواصلة قتلكما بعد ذلك! كيف يفكرون؟ وهل وصلت السياسة الأميركية إلى هذا المستوى من الضعف والهزل؟ إنه موقف هزيل وهزلي، في الوقت نفسه. من أجل هذه المواقف، فإن موقف جنوب أفريقيا عمل بطولي.

* نقلا عن :الميادين نت


في الثلاثاء 06 فبراير-شباط 2024 01:10:04 ص

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=12358