لمن يريد أن يكتب الشعر
جميل الكامل
جميل الكامل


في لقاء جمعني بالشاعر الكبير الأستاذ أحمد ضيف الله العواضي في صنعاء، وتحديدا في مقر اتحاد الأدباء والكتاب، في عام 97م، وكان رئيسا للاتحاد حينها، عرفته بنفسي وأني شاعر من إب، وأريده أن يستمع لي، بغرض تقييمي وتوجيهي، وكنت حينها أعشق الشعر بجنون، وأقطع المسافات الطوال لزيارة شاعر أو ناقد لأستفيد منه وأرتقي بتجربتي الشعرية... فطلب مني أن أقرأ له قصيدة من قصائدي، فقرأت له قصيدة من أقوى وأجمل قصائدي من وجهة نظري، وكنت مازلت في بداياتي الشعرية وأرى كل قصائدي قوية، وأعرّف بنفسي في أي مكان بالشاعر جميل الكامل، ومع افتخاري واعتزازي بنفسي وبالشاعر الذي يسكن ذاتي والذي هو أنا كروح شاعر لا علاقة له بأخطائي وقصوري وإخفاقاتي...
المهم أني وبعد أن أكملت قراءة القصيدة، قال لي وهو يلملم أغراضه ويتأهب للقيام من المجلس، وكان الوقت قريب المغرب، قال لي: شعرك رائع وجميل، ما عدا قصور وخفوت هنا وهناك في القصيدة، لو أكثرت من القراءة لا شك ستسد هذه الثغرات و... و... و... إلخ، لكن كتقييم عام أنت شاعر، وما قلته شعر ممتاز.
كنت حينها في ظروف مادية صعبة، وطول ابتعادي عن منزلي وعدم استطاعتي تحقيق ما كنت أصبو له من أحلامي آنذاك، كل ذلك جعلني حاد الطبع ومزاجي معكرا. فأجبته بكل فضاضة: تقول لي إن ما أكتبه شعر وأنه ممتاز وجميل ورائع في حين أنا نفسي مع اعتزازي بنفسي؛ لكن أدرك أنه ليس بالمستوى الذي أنشده، أريد أن أكتب كالبردوني والمتنبي وغيرهما، وقصدتك من مدينة إب لتقول لي هذا الكلام و... و... و... إلخ؟!
اعجب بإصراري وشجاعتي، فقال: إنما قلت ذلك كونك شاعرا في بداية الطريق، ولو قسوت عليك ربما لتركت الشعر نهائيا، وإلا فهناك الكثير والكثير من الأخطاء والهنات والعيوب في ما سمعت.
قلت له: ولكني قصدتك هذه المسافة لتقول لي عيوبي وكيف أتجاوزها! أشعر أني شاعر وأفتقد آلية الكتابة، أحب الشعر، ولك أن تنتقدني بكل قسوة، فلعلي أن أرتقي بما أكتبه!
حينها قال لي: طالما وأنت بهذا الإصرار وعندك هذه الروح فأعد قراءة ما قرأت آنفاً وأنا والأساتذة (وكان مازال في المجلس بضعة نقاد وشعراء) سننتقدك بكل صراحة، وإن تأخرنا؛ لكن إكراما للشاعر الذي يظهر في كلماتك وعزيمتك سنستمع إليك.
أعدت قراءة القصيدة نفسها، وكان فيها فقرة تقول، وهي قصيدة تفعيلة:
«كيف لا أبكي لأنثى لا تريد سوى العفاف؟!».
أكملت القصيدة التي تناولوها بالنقد واحدا واحدا حتى انتهوا إليه، وكان آخر المتكلمين. أما القصيدة فكانوا قد تركوها كما تترك النسور الميتة، هيكلا عظميا، وقبل أن يتحدث كنت قد وصلت إلى قناعة تامة بأني لست شاعرا.
أما هو فقال لي: قلتَ في أحد سطور قصيدتك:
«كيف لا أبكي لأنثى لا تريد سوى العفاف؟!».
أيها الشاعر القادم من إب، معنا هنا في الاتحاد فَرّاش، هو عمي عبده، هذا الرجل الشايب الذي قدم لنا الشاي قبل قليل، وهو طبعا رجل أميٌّ لا يجيد القراءة والكتابة مطلقا، ولو أن عمي عبده هذا رأى أشخاصا يعلقون على امرأة تشحت أو تطلبهم شيئا لقال لهم: دعوها، هذه امرأة لا تريد سوى العفاف! فأنت قلت في قصيدتك ما يمكن أن يقوله عمي عبده. الشاعر يجب أن يقول أقرب الأشياء من قلوب الناس وأبعدها عن أفواههم.
إذا كان السائق مثلا حزينا قد يقول: أنا حزين، ويقول البقال كذلك، ويقول العامل كذلك، والمدرس وغيرهم، ويكون تعبيرهم هذا مقبولا منهم؛ لكن الشاعر إن كان حزينا وقال مثلهم إنه حزين فهذا التعبير غير مقبول منه. الشاعر ملزم بأن يعبر بألفاظ أخرى توحي بأنه حزين، ولا يصرح بحزنه كالبقال والسائق، وليقل مثلاً: الأرض قاحلة والفضاء كئيب.
ختاماً، وبعد ساعة من النصائح التي نحتها في قلبي، والتي أشكره عليها وأنا مدين له بذلك، قال لي: يا جميل، اقرأ واقرأ واقرأ... القراءة بالنسبة للإبداع كالمطر بالنسبة للعيون. حين تكثر الأمطار تتفجر العيون والينابيع حتى في الطرقات، وحين تشح الأمطار تنزف الآبار الرئيسية.
حين تكثر القراءة يبدع حتى المبتدئ، وحين تقل القراءة يخفق الشاعر الكبير ويبدأ في استعارة ما كتبه في قصائد سابقة، أحياناً معاني وأحياناً فكرة، وربما أبياتا كاملة، يغير فقط القافية، لفقره ولعدم كثرة قراءته.
كم تقرأ من القرآن يومياً؟ آيات الصلاة فقط! يجب أن تقرأ القرآن وأن تكثر قراءته وتدبره وتأمله. اقرأه واستمع إليه، فهو أعظم معين ونهر يغذي إبداع المبدع ويورث الفصاحة والبلاغة. واقرأ بعده لكبار الشعراء: المتنبي، البردوني... إياك أن تكتب وأنت لم تقرأ!
نموذج غاية في الإبداع والبلاغة لكل الشعراء أن يستفيدوا من هذه الأبيات علهم يرتقوا بكتاباتهم ويرحموا ويحترموا أذواق قرائهم، فيكتبون ما يستحق الكتابة ليقرأ الناس ما يستحق القراءة.
قصيدة للشاعر اليمني الكبير علي بن علي صبرة، لحنها وغناها الفنان علي بن على الآنسي، وتعد من التراث الشعبي اليمني، قصيدة بديعة لشاعر مبدع عبّر عن عزمه فيما أحبه وهام به وعن مضيه قدما من غير رجعة ولا تردد مهما واجه من الصعاب والعقبات، بأسلوب فريد يكاد يطلق على شاعره «متنبي الشعر الشعبي»، يقول الشاعر فيها:


شاربط بساق الريح ساق الهيام
ولا عاد ابسر ما قفايا

واسبل على وجه الحياة اللثام
لوما رجعت الا بقايا

وشاستعير للدمع جفن الغمام
إن كان ما عاد به معايا

واصبر على طعن القنا والسهام
لو شققت مني الحنايا

واعصب على عين الضيا بالظلام
واقود أنَّاتي ورايا

واحمل فؤادي مثل فرخ الحمام
على يدي ينزف دمايا

 

* نقلا عن : لا ميديا


في السبت 10 ديسمبر-كانون الأول 2022 09:12:03 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=6528