الانتماء والهوية لدى شعراء العرب قبل الإسلام"2"
حسن المرتضى
حسن المرتضى

 

الفرع الأول: الانتماء الضيق ومراتبه: تتوزع مراتب الانتماء الضيق في الانتماء الوحيد إلى الذات أو إلى حق يمس هذه الذات ثم يكبر هذا الانتماء الضيق ويتسع إلى حق ذاتي لشخص يمثل قبيلة كاملة كالحق في الثأر أو الحق في الملك السياسي على حساب شخص آخر من قبيلة أخرى يتولى زمام قيادة القبيلتين إلى مرتبة أوسع وهي الانتماء إلى حلف يجمع عدة قبائل تحت لوائها...

 

وسأناقش هذه المراتب تباعاً:

المرتبة الأولى: الانتماء إلى حق ذاتي فردي يخص الشخص وحده.

وأكبر مثالين لهذا الحق يتجلى في طرفة بن العبد وعنترة بن شداد...

وكلاهما جسدا هذا الحق في معلقتيهما وكان أكبر حدث محوري في حياتهما معاً..

- طرفة بن العبد ومطالبته بماله...

المطالبة بالحقوق الفردية حق مشروع ولكن أن يخسر المرء قبيلته وينذر حياته كلها لهذا الحق وينعى نفسه ويطلب من ابنة عمه أن تندبه ويلجأ إلى تحقيق هذه اللذة الذاتية وإبرازها عبر مزجها بفلسفة الموت كنوع من الاسترحام ولمرافعته الكلامية كمقدمة لطلب الحق هو مشروع ولكنه يظل محكوماً بالإطار الضيق، ومعلوم أن الحقوق هي أكثر أسباب المنازعات فقد يكون الحق فردياً أو حقاً تتنازع عليه قبائل بكاملها وقد يصل مدى أوسع في أن تتنازع قوميات وأعراق عليه.. ولكننا في حالة طرفة نجد النوع الضيق جداً من الحقوق وهو أول الحقوق ظهوراً في المنازعات.. المنازعة الفردية في إطار أسرته فهو متنازع في ذلك مع ابن عمه مالك...

يقول طرفة بن العبد في معلقته:

ومازال تشرابي الخمور ولذتي

                       وبيعي وإنفاقي طريقي ومتلدي

إلى أن تحامتني العشيرة كلها

                       وأفردت أفراد البعير المبعد

 ولكن ما السبب في طردك من العشيرة هل هو إفراطك في الخمر وبيعك كل ما تملك، يجيب علينا بأنه حر في ماله...

بني غبراء لا ينكرونني

ولا أهل هذاك الطراف الممدد

الا يّهذا اللائميُّ أحضر الوغى

وإن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي

فدعني أبادرها بما ملكت يدي

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى

وجدّك لم أفعل متى قام عوّدي

فمنهنّ سبقي العاذلات بشربة

كُميت متى ما تعلُ بالماء تزبد

وكري إذا نادى المضاف محنباً

كسيد الغضا نبهته المتورد

وتقصير يوم الدجن والدجن مجب

ببهكنة تحت الجباء المعمد

كريم يروّي نفسه في حياته

ستعلم إن متنا غداً أينا الصدي

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة

وما تنقص الأيام والدهر ينفد

لعمرك ما أخطأ الموت الفتى

لكالطول المرخى وثنياه في اليد

 

 بعد أن يقول لنا سبب مطالبته بالحق وأنه لابد أن يتمتع بماله في حياته يدخل على وجه الحق الذي يطالب به ابن عمه فيقول:

فمالي أراني وابن عمي مالكاً

                       متى أدن منه ينأ عني ويبعد

يلوم وما أدري علام يلومني

كما لامني في الحي قرط بن معبد

وأيأسني من كل خير طلبته

كأنا وضعناه إلى رمس ملحد

على غير شيء قلته غير أنني

متى يك أمر للنكيشة أشهد

................................

وظلمُ ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهندِ

..................................

 

ثم يسرد مقالة من يحكمون ببغيه وأخذ أمواله وأولهم أباه...

وقال ألا ماذا ترون بشارب

                       شديد علينا بغيه متعمد

 

وقال: ذروه إنما نفعها له

وألا تكفوا قاصي البرك يزدد

 

ويختتم مرافعته التي طالب فيها بحقه من أسرته في ماله وحقه في تبديدها على لذاته موجهاً إلى ابن عمه:ـ

فإن مُت فانعيني بما أنا أهله

                       وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

ولا تجعليني كامرئ ليس همه

كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي( )

 

عجيب أمره فماذا يريدها أن تعتبره مطالباً بحقوق قبيلته كاملة أم بحقوق جميع العرب أم ماذا ؟!... فهذا هو أول أنواع الانتماء إلى حق فردي..

- الانتماء إلى حق ذاتي في الاعتراف كفارس.

يتجلى ذلك في شخصية عنترة وما تحويه معلقته بالمطالبة في الاعتراف به كفارس للقبيلة وفرحه عندما حصل على هذا الاعتراف وما يندرج تحته من حقوق وهو وإن أصبح الثأر لنفسه الثأر الفردي عمن انتقصه...

ففي صدد مطالبته بفروسيته قومه قوله:

ينادونني في السلم يا بن زبيبة

                       وعند احتدام الحرب يا بن الأكارم

وإلى تذكير قومه أولاً بأول بأنهم لازالوا يعتبرونه عبداً برغم استلحاق أبيه له في كثير من أشعار ديوانه ولا يسعنا المجال هنا لسردها وما يهمنا هنا معلقته وفرحته بعد أن حصل الاعتراف من قومه بفروسيته وإخراجهم له من إطار العبودية واستحقاقه هذا اللقب فيقول:

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

                       قيل الفوارس: ويك عنتر أقدم

 

فهذا الاعتراف الصريح من الفرسان بتقديمهم له عليهم جعل الأمور تتوازن في داخل نفسيته مما أعاد له انتماءه إلى حق أهداه فرسان هذه القبيلة.

وكان هذا ثمن اعترافهم بفروسيتهم عليه فما مظاهر هذه الفروسية يقول:

إن تغدفي دوني القناع فإنني

                       سمح مخالطتي إذا لم أظلم

فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل

مر مذاقته كطعم العلقم

 

وهذا الانتماء إلى هذا الحق الكبير بالمقاربة لحق طرفة أتاح له أن يتلذذ بالحياة كما يريدُ ففروسيته تمنحه هذا الحق يقول:

ولقد شربت من المدامة بعدما

                       ركز العواجر بالمشوف المعلم

بزجاجة صفراء ذات أسرة

قرنت بأزهر في الشمال مقدم

فإذا شربت فإنني مستهلك

ما لي وعرضي وافر لم يكلمُ

 

وكما علمت شمائلي وتكرمي

 

ففروسيته وهي الحق الذي طمح في الانتماء إليه خوّل له الحق في:

وحليل غانية تركت مجدلاً

                       تمكو فريصته كشوق الأعلم

سبقت يداي له بعاجل طعنة

ورشاش نافذة كلون العندم

 

برغم أنها أتاحت له الحق في قتل من يشاء، لكنها هل أتاحت له الحق في أن يثأر عمن سخر منه... نعم... ولكن بعد مشقة كبيرة ينتمي تحت إطار فروسيته إلى المدافعة عن هذا الحق والاستماتة من أجله يقول:

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر

                       للحرب دائرة على ابني ضمضم

الشاتمي عرضي ولم اشتمهما

والناذرين إذا لم ألقهما دمي

أن يفعلا فلقد تركت أباهما

جزر السباع وكل نسر قشعم( )

وشبيهة المطالبة في كثير من أشعار الجاهليين بطلب الثأر من القاتل....

المرتبة الثانية: الانتماء إلى حق سياسي في الملك..

ويمثل هذه المرتبة شاعران من الفحول في المعلقات وهما امرؤ القيس بن حجر الكندي وكذا عمرو بن هند زعيم قبيلة تغلب وإن كان الأول امرؤ القيس يطالب بزعامة قبائل كثيرة بناءً على حقه في وراثة الملك عن أبيه ولكن والده ثار عليه جموع القبائل وقتلوه فلا مناص له من استعادة هذا الملك ولكن بقميص يرتديه وهو أخذ الثأر من قاتلي والده وإنما المقصد الحقيقي لهذه الذريعة هو الجلوس على مقعد الملك.. وكذا الحال عند عمرو فهو يتخذ من ذريعة خرق بعض نقاط الحلف بين بكر وتغلب وكذا إهانة أم الملك أو زوجته لأم عمرو بن كلثوم للمطالبة بحقه في الملك بدلاً عن عمرو بن هند...

2- امرؤ القيس: الانتماء إلى الملك...

إن انتماء امرئ القيس إلى الملك حق مشروع إذ أن والده كان يحكم الكثير من القبائل التي تنضوي تحت سيادته فهو يرى أحقيته بالملك من ناحيتين فهو ابن ملك وثانيها أنه يرى أنه الأجدر بذلك...

ومن هذه الأحقية يقول عن نفسه:

عليها فتى لم تحمل الأرض مثله

                       أبر بميثاق وأوفى وأصبرا

 

ويعتمد على هذه الأحقية في معلقته بذكر أيامه وبطولاته وكلمة (يوم) إذا أطلقت في الشعر الجاهلي إنما تعني الانتصارات في المعارك فيوظفها بشكل رمزي رائع فيقول:

الا رب (يوم) لك منهن صالح

                       ولاسيما يوم بدراة جلجل

ويوم عقرت للعذارى مطيتي

فيا عجباً من كورها المحتمل

فظل العذارى يرتمين بلحمها

وشحم كهداب الدمقس المفتل

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معاً

عقرت بعيري يا امرؤ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه

ولا تبعديني عن جناك المعلل

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشق وتحتي شقها لم يحول

ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت

عليّ وآلت حلفة لم تحلل

 

فهو ليس كما يزعم كثيرون بأنها مغامرات نسائية وأنه مجون وخلاعة من امرئ القيس فهو فارس وقد استخدم براعته في سرد أيام معاركه بالشكل الرمزي هذا الذي بسببه استحق أن يكون أمير الشعراء إلى يوم القيامة.

ومما يؤكد هذا قوله بعد هذه الأبيات مخاطباً الملك الذي ضاع وانفطم عنه بقوله:

أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل

                       وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

أغرك مني أن حبك قاتلي

وأنك مهماً تأمري القلب يفعل

وأن كنت قد ساءتك مني خليقة

فسلي ثيابك من ثيابي تنسلِ

 

ففاطم هنا ليس إلا رمزاً للملك الضائع والدليل على ذلك مطلع معلقته التي ابتدأها بذكر حدود مملكته التي ضاعت وهو يبكيها وهل من المعقول أن يبكي الملك الظليل إلا على مملكته في معلقته أم أنه يبكي على محبوبة كما زعموا بقول:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

 

من هما الباكيان أولاً هما من تبقى معه ـ الفرس ـ والذئب ـ الصديقُ يفسر هذا من المعلقة ذاتها فنصفها سرد لأوصاف هذا الخيل ثم قبل آخر وحدة من هذه المعلقة يذكر حاله مع الذئب وسيأتي بيانه، فإذا وقفا للبكاء فعلامَ يبكيان يقول:

...............................

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

                       بسقط اللوى بين الدخول فحومل

لمَ نسجتها من جنوب وشمأل

 

أليست هذه حدود مملكته الضائعة التي فطمته عن الملك..

أليس في معلقته يخاطب صاحبه الثاني الذئب بقوله:

كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته

                       ومن يكترث حرقي وحرقك يهزل

 

ومما يؤكد هذا الزعم أنه يختم القصيدة بوحدة السيل الذي أغرق مملكته ولكن ما هو هذا السيل... الأكبر أنه ابتعاد هذا الطموح وتلاشيه وغرفه في ذهنية الشاعر ووصوله إلى اليقين بأنها لم تعد ملكاً له يقول:

كأن السباع فيه غرقي عشية

                       بأرجائه القصوى أنابيش عنصل( )

 

3- عمرو بن كلثوم: والانتماء إلى أحقيته في الملك من عمرو بن هند..

ففي معلقته يبدأ بذكر أمجاده وأمجاد قومه وإحرازهم قصب السبق على أولاد عمومتهم الذين منهم الملك ويسرد فيها سبب خروجه على الملك لخرق بعض من بني بكر العهد والحلف الذي بينهم وإهانته لأمه وهذان هما قميصا عمرو لأخذ الملك الذي باءت نتيجته بالفشل كما هي حال امرئ القيس.

يقول:

ونحن الحاكمون إذا أطعنا

                       ونحن العازمون إذا عصينا

ونحن التاركون لما سخطنا

ونحن الأخذون لما رضينا

 

ويقصد بالضمير (نحن) نفسه وإنما أتى بضمير الجماعة ليتعاطف معه أبناء قبيلته تغلب بأجمعها فيقول مؤكداً هذا الحق:

ورثنا المجد قد علمت معد

                       نطاعن دونه حتى يبينا( )

 

فما هو هذا المجد الذي سيطاعن عنه هو وقومه حتى الوصول إليه... أليس هو الملك.

المرتبة الثالثة: الانتماء إلى قبيلة بعينها والمنافحة عنها..

يقول في هذا الصدد دريد بين الصمة

وما أنا إلا من غزية أن غوت

                       غويت وإن ترشد غزية أرشد( )

ويقول معاوية بن مالك بن جعفر:

إني أمرؤ من عصبة مشهورة

                       حشد لهم مجد أشم تليد

ألفوا أباهم سيداً وأعانهم

مجد وأعمام لهم وجدود

إذ كل حي نابت بأرومة

نبت العضاة فماجد كسيد

نعطي العشيرة حقها وحقيقها

فيها ونغفر ذنبها ونسود

وإذا تحملنا العشيرة ثقلها

قمنا به وإذا تعود نعود( )

ويقول عامر المحاري:

لنا العزة القعساء نختطم العدا

                       بها ثم نستعصي بها أن نخطما

فما يستطيع الناس عقداً نشده

ونقضته فيهم وإن كان مبرما( )

 

وأكثر شعراء الجاهلية من هذا الطراز ولم أكثر منهم لغلبة هذا الاتجاه في الشعر الجاهلي...

المرتبة الرابعة: الانتماء إلى حلف يضم تحته عديدًا من القبائل..

ويندرج تحته الاستجارة..

وفي شأن الأحلاف بين العرب تعد من الاتحادات التي كانت تجمع القبائل اتحادات (الأحلاف) ويظن أن هذه الاتحادات لعبت دوراً كبيراً في تكوين القبائل؟ إذ كانت تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وترد العدوان عنها؛ يقول البكري (فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة وتنافس الناس في الماء والكلأ، انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالهّم وانتشر كل قوم فيما يليهم ( ).

ومن ذلك بعد حملة أبرهة على الكعبة قول حرب بن أمية:

أيا مطراً هلم إلى صلاح

                       فتكفيك الندامى من قريش

فتأمن وسطهم وتعيش فيهم

أيا مطراً هديت لخير عيشِ

وتنزل بلدة عزت قديماً

وتأمن أن يزورك رب جيش( )

 

فهذه دعوة صريحة إلى التحالف... وعلى العكس فقد برزت ظاهرة التخوين لبعض الأحلاف وما يطرأ عليها من انقطاع وذلك كقول المرقش الأكبر:

سرى ليلاً خيال من سُليمى

                       فأرقني وأصحابي هجودُ

فبت أدير أمري كل حالٍ

وأذكر أهلها وهم بعيدُ

سكن ببلدة وسكنت أخرى

وقطعت المواثق والعهودُ

فما بالي أفي ويخان عهدي

وما بالي أصاد ولا أصيدُ( )

 

كان هذا عرضاً موجزاً لمراتب الانتماء الضيق.

وارتباط مراتب الانتماء الضيق بمفهوم المواطنة التي يطلق عليها حالياً المواطنة الدستورية وهي "المواطنة المرتبطة بجواز السفر وما يترتب عليه من حقوق وواجبات ليس أكثر"( ). وجواز السفر هنا هو الانتماء إلى قبيلة بعينها باعتبارها الدولة التي ينتمي إليها الفرد أو انتماؤه إلى حلف يشمل عدة قبائل تشكل اتحاداً دولياً.

 

* نقلا عن : المسيرة نت 


في الأحد 05 فبراير-شباط 2023 09:13:39 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://www.cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.cfca-ye.com/articles.php?id=7150