|
في كل الديانات السماوية أو الوضعية هناك أيام فاصلة في حياة الأمم تكون لهم عيدا أو مناسبة فرائحية، وهي في حقيقتها حالة من حالات الانتقال والتبدل، فالثبات طوال عام من الزمن يبعث على الرتابة والملل، والرتابة والملل بدورهما يكونان سببا في الفساد في الأرض، ومثل ذلك تحدث عنه القرآن في جل آياته، بيد أن المشكلة تكمن في سوء الفهم والتأويل وربما في خطأ القراءة للسياقات العامة، فالعقلية التي تتقبل الكليات المنطقية دون تجزئتها، أو تحليل عناصرها لا يمكنها أن تدرك حكمة الله ,ولا مقاصد الإسلام والنص المقدس، فالذين يتعاطون مع الدين الإسلامي وفق فهم الفقهاء الذين فهموه وفق سياقات ومعطيات زمنهم الذي كانوا فيه لا يمكن لهم أن يحدثوا متغيرا حضاريا في حياة المسلمين، ولا يمكن لهم أن يسهموا حتى بقطرة في نهر الحضارة المتدفق، فالإسلام ليس قالبا جاهزا ولكنه روح ديناميكية، ورؤية، وتصور، ومفهوم متحرك قادر على التفاعل مع الحضارات والثقافات، وقادر على الابتكار والإبداع، ومقاصده واضحة وجلية لا يمكنها أن تتصادم مع الحياة والعمران والنمو والتقدم والازدهار.
ولذلك فالأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى اعتصامات وثورات اجتماعية، بقدر حاجتها الأشد إلى ثورة ثقافية، تعيد الفكرة الإنسانية الشاردة إلى نسقها الطبيعي في المنظومة الفكرية والأخلاقية والروحية الإسلامية، وتعيد الإسلام المغترب عن زمنه الحضاري والإنساني إلى مكان الصدارة، كما يريد الله لا كما يريد أولئك المتشدقون والمتفيقهون بالدين وبالإسلام والمزايدون به سياسيا واجتماعيا.
ليكن العيد كمحطة دينية، وحالة انتقاله لحظة فاصلة لمراجعة الذات العربية والذات المسلمة في عمومها، وليكن محطة للانتقال إلى زمن جديد لا يغترب عن واقعه، ولا عن نسقه الحضاري، وليكن فرصة لإعادة الاعتبار للعقل العربي الذي حاربناه وكفرناه ووضعنا أمامه العراقيل والعقبات حتى لا يتمكن من القيام بدوره في التنوير المعرفي والانتقال الحضاري.
إن حالات الدمار الشامل في البنى العامة وثقافة الموت والأحزمة الناسفة والعبوات المتفجرة واستهداف الآمنين والمؤمنين والشعارات المضللة، وموضوع الجهاد مع ما تصاحبه من فتاوى مدمرة للبنية الأخلاقية والبنية الاجتماعية والثقافية كل ذلك وغيره هو الفساد بعينه فالذين يتحدثون عن الإصلاح يقعون في مربعات الفساد المدمر من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون وكأن الله يخاطبهم حين يقول لهم (لا تفسدوا في الأرض) وهم يردون عليه، إنما نحن مصلحون”، فيقول لهم “إنكم مفسدون ولكنكم لا تشعرون”، فالقضية هنا قضية ثبات وتحجر، والثبات والتحجر ضد فطرة الله وضد مقاصده في الأرض، بدليل أن الله لو علم في الكثير ممن يقفون على منابر المساجد ويتضرعون بالدعاء خيراً لكان قد استجاب لدعائهم، ولأصبحة إسرائيل الآن شيئا مذكورا في صفحات التاريخ، ومن هنا يتوجب الحد من ظاهرة الوهم, فالله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين، وما حدث ويحدث في البلدان العربية هو الفساد بعينه، فتعطيل مصالح الناس ليس من الإسلام في شيء، وجهاد المناكحة ليس من الإسلام في شيء، واستغلال حاجات الناس ليس من الإسلام في شيء، وتكفير الآخر ليس من الإسلام في شيء، فالحساب على الله وليس معنيا به أحد من عباده، فالذين يمارسون دور الله في حساب الناس ويخالفون نصه في قوله (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) إنما يسعون في الأرض فسادا من حيث اعتقدوا إنما هم مصلحون ولكنهم وقعوا في الفساد من حيث لا يشعرون (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) .
فاليوم كما هو في الأمس تتكالب الأمم على العرب وعلى المسلمين كما يتكالب الأكلة على قصعتهم، تضيع الأرض، وتضيع المقدسات، وتنتهك الحرمات، والكثير من العرب ومن المسلمين في شغل العدوات والشحناء فاكهون، ينسجون خيوط العداوات والبغضاء لبعضهم بعضا، وعدوهم ينسلَّ من بين أناملهم فيعيث فسادا في أرضهم وفي مقدساتهم وينال من شرفهم، هم على أرائك العدوات متكئون دون أن يحركوا ساكنا، أو نسمع لهم من صرخات الألم ركزا.
ما يتميز به اليوم عن الأمس هو التطبيع الذي بدأ الكثير من زعماء العرب والمسلمين ينساقون اليه طوعا أو كرها , بالأمس كان العدو واضحا ومحددا وسهام الجهاد تتجه اليه وإن داهن من داهن من الفرق والطوائف، إلا أن المسلمين كانوا يرون العدو عدوا والمحتل محتلا والغازي غازيا، لكن في يومنا بدأوا بالهويات الثقافية والحضارية والتاريخية والدينية فاشتغلوا عليها حتى تاه القوم وفقدوا المعنى الديني والثقافي والحضاري والتاريخي ثم مالوا إلى المفاهيم -وعن طريق أناس من بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا ويؤمنون بديننا ظاهرا ويكتمون كفرهم باطنا – فجعلوها بددا وبدون محددات وبدون ظلال وأفرغوا كل مفهوم من محتواه حتى كاد القوم يرون في الصهيونية وفي الغزاة وفي المحتلين بدائل محتملة للوطنين وللأحرار والشرقاء الذين مازالوا يحفظون البوصلة ويعرفون الاتجاهات في زحمة الضياع والتيه التاريخي الذي لازم العرب منذ سقوط بغداد الأول إلى سقوطها الحديث بيد الغزاة والمحتلين .
بغداد ودمشق متلازمتان تاريخيتان لا يمثل سقوط الأولى واضطراب الثانية إلا حالة تاريخية وحالة سياسية وثقافية ذات تواشج وتعاضد، يعرف العدو كيف يعيد ترتيب نسقهما حتى يستفيد من حالة انهيار الأولى واضطراب الثانية في تحقيق مآربه، فالعامل التاريخي عامل مهم في بناء الحضارات والثقافات وفي بلوغ السياسات لمآربها، وهو عامل يهمله العرب ولا يدركون أهميته، وعدوهم يعرف كيف يصل إليهم من خلال خصائص تفكيرهم وثقافتهم القائمة على تقبل الافكار ككليات غير قابلة للتجزئة.
الموضوع الأخلاقي والقيمي جانب مهم وحيوي في المنظومة العقائدية الإسلامية واختلال نسقه من الظواهر المدمرة للمقاصد ولصورة الإسلام عند الآخر، ولذلك كم نتمنى أن يكون هذا العيد هو تلك اللحظة الفاصلة في حياة المسلمين والباحثة عن نسقها الحضاري والثقافي الجديد.
لا نتمنى أبداً أن تتكرر الصورة النمطية للحالات الانتقالية منذ عصر المتنبي الذي ترك للعيد سؤالا مفتوحا في كل الأزمة “ بأي حال عدت يا عيد “ فنحن حتى اللحظة الزمنية الجديدة نجدد السؤال ونشعر بذات الصورة القديمة، ولكننا نتمنى أن نتغيَّر، ونتطور، ونكون نحن، ونخرج من حالة الاغتراب الحضاري..
في الجمعة 21 إبريل-نيسان 2023 08:03:58 ص