اعتادت القوى الاستعمارية الغربية – وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، وعلى مدى عقود خلت من الزمن – على ممارسة هواياتها التخريبية خارج نطاق حدودها الجغرافية، واتخذت من الجغرافيا العربية ساحة مفتوحة، تفننت فيها هذه القوى بصور وأشكال مختلفة، في إتقان فنون لعبتها المعروفة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته، وكانت الشعوب العربية بمثابة حقل تجارب، أبدعت فيه القوى الاستعمارية الغربية وابتدعت صورا متعددة من لعبتها، التي طورتها وحدثتها بشكل مستمر ومتسارع في بيئة خصبة، ألبست أنظمة شعوبها رداء الديمقراطية، وسرعان ما نمت وأورقت وأثمرت، وحصدت تلك القوى نتاج لعبتها من دماء وثروات شعوب الأمة العربية، التي تفرغت للصراع البيني، تاركة للقوى الاستعمارية الغربية الباب مشرعا، لتتحكم وبشكل مطلق في مصائر الشعوب العربية.
وكانت القوى الاستعمارية الغربية، في أعلى درجات الاستمتاع بالصراعات البينية، بين المكونات الاجتماعية في الشعوب العربية، وبين هذه المكونات وأنظمة الحكم فيها، ولقد كانت القوى الاستعمارية الغربية، هي التي تحكم وتتحكم في إدارة الصراعات البينية، فهي تسخنها أحيانا، وتبردها أحياناً أخرى، وفقا لمقتضى الحال.
ولم يكن الوضع ليختلف عما كان معروفا عن ملوك ونبلاء الرومان، الذين استمتعوا بمصارعة الوحوش مع أسرى الحروب، وكانت تنتهي تلك المصارعات غالبا بافتراس الوحوش للمصارعين، لكن ورغم بشاعة المنظر، إلا أن النتيجة كانت مبهجة ومسلية وممتعة للمشاهدين لتلك المصارعة الدامية التي تفوح منها رائحة الموت.
وذات الأمر ينطبق على الصراع الذي أدارته القوى الاستعمارية الغربية، بين مكونات الشعوب العربية في ما بينها، وبينها وبين أنظمة الحكم فيها، مع فارق أن حلبة هذا الصراع مفتوحة، والوحوش فيها بشرية، وضحايا الصراع ملايين الأبرياء، ورغم أن نتائج هذا الصراع كارثية على الشعوب العربية، وعلى مقومات حياتها، إلا أنها في كل الأحوال كانت تروق للقوى الاستعمارية الغربية.
وقد ساندت القوى الاستعمارية الغربية الأنظمة العربية التي ألبستها رداء الديمقراطية، وحرضتها على مواجهة الشعوب بالعنف المفرط، في الوقت الذي كانت هذه القوى تتبنى المطالب الشعبية، وتساند القائمين عليها، والمنظمين لها، وتُعدِّهم ليكونوا بديلا مستقبليا لعملائها الممسكين بزمام السلطة في أنظمة الحكم في تلك الشعوب.
وإذا ما رأت القوى الاستعمارية الغربية أنه قد حان الوقت للإطاحة بأولئك الحكام، باعتبارهم قد أصبحوا يمثلون عبئا عليها، كونهم كأدوات يمكن استخدامها، قد شارفت صلاحيتهم على الانتهاء، حينها تدفع القوى الاستعمارية الوافدين الجدد إلى مواجهة النظام القائم على رأس السلطة، رافعين سقف مطالبهم إلى أعلى المستويات، وفي ذات الوقت تشجع هذه القوى الاستعمارية الحكام على قمع المطالب الاحتجاجية، ولو أدى ذلك إلى الإفراط في سفك الدماء، كأسلوب لا بد منه للدفاع عن كرسي الحكم.
واستمرت القوى الاستعمارية الغربية في إدارة الصراع إلى أن تم إسقاط من كانوا يمثلون عبئا عليها، وحينها فاز الوافدون الجدد بالسلطة، وفازت هي بحصيلة ثروات المنصرفين من الحكام عن السلطة، والتي نهبوها خلال عقود حكمهم، وأودعوها في حسابات سرية، غير معلومة إلا لمودعيها ولأجهزة المخابرات التابعة للقوى الاستعمارية الغربية، وما إن ينتهي استبداد حاكم مستبد لعقود من الزمن، حتى تنصب القوى الاستعمارية الغربية حاكماً مستبداً مكان من سبق إن أطاحت به، والشعوب العربية لا تتعلم من دروس الماضي، وما عقود فساد واستبداد مبارك، ومن بعده السيسي عنا ببعيد.
وواصلت القوى الاستعمارية الغربية لعبتها المفضلة، وأدارت الصراعات البينية بمختلف أنواعها.. فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية ومسلحة، ومع أن الشعوب العربية قد مثلت خلال العقود الماضية ساحة مفتوحة، أدارت فيها القوى الاستعمارية الغربية فنون لعبتها المفضلة، إلا أن هذه القوى لم تكن تمارس لعبتها في كامل النطاق الجغرافي للساحة العربية، وتحديد ساحة الشعوب المتلبسة أنظمة الحكم فيها بلباس الديمقراطية، وإنما كانت تتنقل شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، لتستمتع بأداء المتصارعين في كل جهة من الجهات التي تقيم فيها حفلاتها العبثية فيها، وحين حل ربيع عام 2011، كانت جميع الجهات تقريبا في كامل النطاق الجغرافي ساحة صراع واحدة، وكان حال القوى الاستعمارية الغربية، كحال من يرغب ويحرص على مشاهدة أكثر من شاشة عرض في آن واحد تبث برامج ذات أهمية بالغة بالنسبة له.
واليوم، وبعد مرور أكثر من عقد من الزمان على إغلاق ساحة عروض ربيع 2011، وبعد محاولة القوى الاستعمارية الغربية افتتاح ساحات عروض جديدة في أوكرانيا أو في تايوان، وأخيرا ساحة العرض الدامية في غزة، للاستمتاع بمشاهد القتل المرعبة، لكن القوى الاستعمارية الغربية لم تعد مجرد متابع ومتفرج ومحرك لخيوط القوى المتصارعة، بل إن هذه القوى أصبحت هي الوحوش التي تملأ حلبة الصراع، وليس ذلك فحسب، بل اجتازت سياجها، وافتكّت من عقالها، وفتكت بكل من في طريقها، وفي الأفق البعيد مكانيا، والقريب زمانيا، تبلورت حالة إنسانية مهمة، مضمونها أن وحشية القوى الاستعمارية الغربية، سترتد عاجلا أم آجلا على ساحاتها الداخلية، وستقيم فيها حلبات صراع جديدة، لإشباع غرائزها الوحشية للدماء والأشلاء.
وهنا وإسنادا لشباب الحالة الإنسانية في الجامعات الغربية، نهض الربيع العربي محييا الربيع الغربي، ومسديا له بعد السلام نصيحة، قائلا إن موعد الحصاد قد حان الآن، فالحذر كل الحذر أن يعصف بك المجرمون، أو بإنسانيتك يفتكون.