تذكر بعض كتب السيرة النبوية المطهرة على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام أن كفار قريش أصيبوا بغم شديد بعد هجرة الرسول الأعظم إلى المدينة ولم تعد حربهم الإعلامية الشعواء التي كانت تنطلق من مكة من خلال سلاح الشعر والهجاء تجدي نفعا ورأوا أن افضل وسيلة هي محاربته إعلاميا من الداخل فأجمعوا أمرهم على اختيار ابرع شعراء “يثرب ” وإغرائه بالمال ليقول في الرسول هجاء مقذعا تتناقله القوافل والركبان، واتفقوا بالإجماع على الشاعر/ حسان بن ثابت الأنصاري وحينها كان على دين الكفر ودخلوا معه في اتفاقات سرية أفضت إلى دفع قريش المال وقد كان مبلغا كبيرا في ذلك الزمان على أن يتسلم القسط الأكبر منه وما تبقى يكون بعد كتابته القصيدة المنتظرة.
-وافق حسان على العرض وتسلّم المال وبدأ أولى خطواته لإنجاز المهمة وهي رؤية الرسول حتى يعاين إحدى صفاته السلبية فيتخذها مدخلا لهجائه وعلم من عيونه بأن الرسول يمر عادة في طريق على مقربة من ربوة صغيرة فوقف على تلك الربوة منتظرا رؤية النبي وما أن أطلّ الحبيب المصطفى واكتحلت عينيه برؤيته البهية عليه وآله افضل الصلاة وأتم التسليم حتى قرر بدون تردد أن يرد المال إلى قريش وارسل لهم مع ذلك المال رسالة قال فيها ” هـذا مالكم ليس لي فيه حاجة وأما هذا الذي أردتم أن أهجَوه ..فاعلموا إني أشهد أنه رسول اللّه”
-استغرب كفار مكة ممن أعمى الله أبصارهم وبصيرتهم وحرمهم من رؤية القمر الذي لا ينكسف والضياء الذي لا يخبو من هذا التغيّر المفاجئ من الشاعر حسان وعابوا عليه نقضه ما أسموها العهود والمواثيق، فرد على تساؤلاتهم بهذه الأبيات التي ظلت خالدة في كتب الأدب العربي إلى الآن والى ما شاء الله والتي يقول فيها:
لـمّـا رأيــتُ أنــواره سـطـعــت وضعت من خيفتي كفّي على بصري
خـوفـاً على بصري من حسن صورته فلـستُ أنـظـره إلا عـلـى قـدري
روح من النـور في جسم من القمر كحلية نسجـت مـن الأنجـم الـزهر.
-كانت هذه الأبيات المضيئة للشاعر والصحابي الأنصاري حسان بن ثابت في مدح الرسول الأعظم باكورة عمل أدبي حافل ومميز في امتداح الرسول والثناء على مناقبه وصفاته العظيمة، وكانت له في هذا الجانب صولة وجولة وحظي بشرف تسنمه لقب شاعر الرسول وسطر وهو يدافع عن النبي الكريم والدعوة الإسلامية بأجمل ما قالته العرب في فنون الشعر كيف لا وهو القائل رضي الله عنه :
وأجمل منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلدِ النساء
خلقت مبرءٍ من كل نقصِ كأنك قد خلقت كما تشاء
-ظل حسان بن ثابت -رضي الله عنه- وفيا لمهمته في مواجهة الحرب الإعلامية والدعائية التي شنتها قريش بلا هوادة على الرسول وعلى دعوة الإسلام وجيّشت جيوشا من شعراء بادية العرب وأنفقت أموالا طائلة على هذه الحملة لكن كفاءة حسان وعبقريته الشعرية مكنته من التصدي الحازم لتلك الحرب الشعواء مؤيًدا بدعوة الرسول الأعظم، حين قال لحسان وقد تم تداول قصيدة هجاء للنبي من قبل أقزام الصحراء القدامى” اجب عني اللهم ايده بروح القدس”.
ومن طرائف ما يروى أن الرسول عليه وآله افضل الصلاة والسلام قال لحسان يوما “كيف تهجو قريشا وانا منهم” فأجابه بكل ثقة لأخرجنك منهم كما تخرج الشعرة من العجين.
-بقي شاعر النبي حسان بن ثابت بدعم من رفيقيه الشاعرين المجيدين كعب بن مالك وعبدالله بن رواحة -رضي الله عنهم- في طليعة المواجهين لحرب قريش الإعلامية وحين مات الرسول قال فيه مراثي تقشعر لجمالها وبلاغتها الأبدان ومن أبيات تلك المراثي البديعة بيت اجمع نقاد الأدب العربي – قديمه وحديثه – على أنه أصدق بيت قالته العرب في الرثاء وهو قوله:
وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامةِ يُفقدُ
وقد طال العمر بحسان حتى مات عن 120عاما وقد وافته المنية في السنة الـ 50 للهجرية وفقا لأغلب الترجيحات، تاركا إرثا مشرفا في الدفاع الإعلامي عن سيد الورى وخير الخلق أجمعين عليه وآله أزكى الصلاة وأتم التسليم.
-اليوم ها هم أحفاد كفار قريش القدامى يشنون حملة إعلامي
ة دعائية جديدة سلاحها الفضائيات وأبواق الإعلام العصرية ضد كل من يحتفي بمولد النبي الأعظم ويستكثرون على الشعب اليمني الذي ارتبط به وبدعوته وبآل بيته ارتباطا وثيقا منذ الأزل إبداء مظاهر الفرح والابتهاج بهذه المناسبة العظيمة التي غيّرت وجه العالم وأخرجت البشرية من دهاليز الظلام إلى نور الحق والهدى وأخرجت الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وإذا بدعاية اليوم تصف المحتفين بسيد الخلق أجمعين بأنهم أصحاب البدع، بينما يجدون في كل ما حل بالإسلام وأهله من انحرافات خطيرة وتشوهات لا حصر لها أمورا اعتيادية لا تستوجب التنديد والاستنكار، كما يفعلون اليوم مع الشعب اليمني الذي قرر الاحتفاء بذكرى مولد رسوله بصورة غير مسبوقة تليق بحجم وعظمة المناسبة، شاء من شاء وأبى من أبى.