شهد الحقل الإعلامي خلال الثلاثة العقود الماضية تطورات مذهلة شملت كافة الجوانب الهندسية والتشغيلية والتقنية من جهة ، ومن جهة أخرى أشكال وقوالب ومضمون العمل والخطاب الإعلامي، فإذا كان الخبراء قد قسموا مسيرة الإعلام إلى ثلاث مراحل أساسية الأولى دشنها ظهور المطبعة والثانية دشنتها وكالات الأنباء والثالثة الإذاعة والتلفزيون ، فإن المرحلة الرابعة قد تم تشكيلها اليوم عبر أجيال متقدمة من الحاسبات الإلكترونية والألياف الضوئية أعادت بدورها تشكيل خارطة العمل الاتصالي في المجتمعات المعاصرة . وبات العالم أشبه ما يكون بالقرية الكونية الصغيرة يجتمعون الناس من مختلف أصقاع المعمورة حول قضايا مشتركة من خلال نوافذ اتصالية غيرت خط إنتاج الرسائل الإعلامية يتأثرون بها ويؤثرون بإعادة انتشارها. وترافق مع هذه التحولات اللافتة ظهور مراكز إعلامية جديدة تحركها أجندة خاصة مستفيدة من سرعة انتشار المعلومة ورخص مربع الآلة الاتصالية . ولم يعد الإعلام مجرد رسالة كما كان في الماضي بل أصبح صناعة ضخمة .
وعليه فقد تمكنت القوى المتحكمة برؤوس الأموال ان توظف هذه الوسائل لخدمة مشاريعها السياسية والاقتصادية وحتى الدينية ، فانسلخت الرسالة الإعلامية من مضمونها الإنساني والمعرفي بعد ان وظفتها هذه القوى لخدمة توجهاتها من خلال الدعاية والترويج والتضليل وأشياء كثيرة ذات ارتباط .
وكما هو معلوم ان المملكة العربية السعودية تحتل المرتبة الأولى في منطقة الشرق الأوسط في إنتاج الرسائل الإعلامية نظراً لما تمتلكه من وسائل إعلامية كثيرة سُخرت لها كل الإمكانيات واستُثمرت فيها الأموال الطائلة من اجل الحصول على أصوات داعمة ، فعمدت إلى صناعة الأفكار وترويض المفاهيم وذهبت الى ابعد من ذلك بتضليل شعوب المنطقة والعالم كما هو معمول به اليوم في عدوانها على اليمن ، وتزييف وعي المتلقي المتلهف لمعرفة ما يدور على الواقع في كل من سوريا والعراق وليبيا بشكل لا يتسق مع الهوى الرسمي لمجمل السياسات الإعلامية لهذه الدول وسياساتها الوطنية وهمها المجتمعي .
وإذا ما تساءلنا من هو المتأثر بأساليب التضليل وأشكال الشائعات ؟ ستكون الإجابة في شكلها العام المتلقي ، وهي إجابة لا يختلف عليها اثنان
ولكن إذا ما تأملنا في شخص المتلقي اليوم نرى أن سلوكه وتصرفاته تحكمها حزمة من العوامل النفسية والصور الذهنية ومستوى التعليم والثقافة والنسق السياسي والديني وغيرها من مكونات الرأي العام ، وهي عوامل مجتمعة أو منفردة تجعله يفضل وسيلة إعلامية على أخرى .
غير ان تزاحم النوافذ الاتصالية وتنوعها مع ما تشهده خارطة المهنة الإعلامية من تزايد اعداد الهواة جعلت من المتلقي (المستخدم) أكثر من كونه مستقبلاً عادياً .
لذلك فإن ما تبثه وسائل الإعلام المعادية اليوم من معلومات وأخبار وآراء تنفي بمضمون التضليل حقيقة ما يجري في اليمن وغيرها من دول المنطقة، قلل الى حد كبير من اهتمام المشاهد لهذه الوسائل ، فبمجرد ان تتناول قناتا الجزيرة والعربية بالكذب المعتاد تقدم ما يسمى بالجيش الوطني وسيطرته على محافظات يمنية قبل عام تأتي اليوم هذه القنوات لتبث نفس الأسطوانة ، فيما المشاهد الحية التي ينقلها الإعلام الحربي من الأرض عبر الوسائل الإعلامية المناهضة للعدوان تسقط زيف هذا الادعاء . ناهيك عن الحرب الإعلامية الافتراضية التي مورست على سوريا لأكثر من خمس سنوات نرى فيها كيف عادت حلب الى حاضنة النظام والجيش العربي السوري .
ان كل هذه التربية غير الأخلاقية للمشاهد التي تقتضيها العمليات التضليلية لوسائل إعلام السعودية خصوصاً ودول الخليج عموماً دفعت بهذه الوسائل الى الهاوية وفقدت مصداقيتها عند المتلقي الذي أصبح يدرك مدى استخفاف هذه الوسائل بالمشاهد كونه أصبح مواطناً صحفياً يتابع ويشارك لكل ما يجري من خلال جهازه اللوحي في أي وقت ومتى ما يشاء .
بات من المقطوع به يقيناً ان الإعلام المعادي تحول من تضليل المجتمعات الى تضليل نفسه كونه يفتقر الى الأساليب المقنعة القائمة على ربط كل هذا التضليل المهول بصورة شبه مقنعة للمشاهد الذي أفرزت له الكثير من العناصر وعياً سياسياً وإعلامياً .
حقيقة لقد وقعت هذه الوسائل المعادية في مصيدة التطور المذهل للآلة الاتصالية والتي لطالما ولازالت تكابر على تضليلها وضلالتها وبها ومن خلالها ضللت نفسها لان القائمين عليها لم يكونوا موفقين في بلورة مفهوم عام مترابط ومعقول حول تضليل حقيقة ما يجري الأمر الذي جعلها تدمر نفسها من الداخل والمقصود بذلك المصداقية .
صفوة القول لا يمكن إغفال دور المتلاعبين بالعقول سواءً بالتدجين أو الترويض أو صناعة الأفكار بأفكارٍ مضادة كما حال إعلام السعودية ومن يقف معها ويدعمها ويشاركها تحالف العدوان على اليمن . ولكي لا نقع في التعميم اللامنصف فإن الاستخفاف بعقلية المواطن الصحفي من قبل الإدارة المتحكمة بالعدوان يكلفها كثيراً من حيث المال والوقت والجهد المبذول في سبيل تزييف الوعي وتغيير الحقيقة .
كيف لا فهي لا تستطيع تحديد اللاعبين والمتابعين والمحترفين والهواة من النخب أو السواد الأعظم الذين يقومون بالأدوار المتوقعة وغير المتوقعة في ظل المشهد الرقمي متعدد الأغراض المتنوع بوسائله الإتصالية الناقلة والمنتجة وان كانت دول تحالف العدوان تعتبرها نصف أسلحتها إلا انها ليست حكراً على احد فالجميع يستخدمها على اختلاف مشاربهم وفي كل المجتمعات ومنها المجتمع السعودي الذي يتصدر القائمة في منطقة الشرق الأوسط في استخدام توليفة الشبكة العنكبوتية وطفرة الدوت كوم .
وكوننا نمتلك الحقيقة ما علينا سوى سرعة توفيرها ونشرها في مربع الآلة الاتصالية وهي كفيلة وكافية لدحض تضليل زيف الإعلام المعادي والتباساته المدجنة .
وصدق الله القائل:
( وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ) .