حسمت صنعاء موقفها الواضح لما بعد تمديد الهدنة، الذي ينتهي مطلع تشرين الأول/ أكتوبر القادم، وهو موقف يضع قيادة تحالف العدوان على محك الجدية ونواياه في السلام، فما لم تقُد الهدنة كخطوة متقدمة إلى وقف دائم لإطلاق النار ورفع الحصار والتوجه نحو مفاوضات جادة لتحقيق السلام في اليمن والمنطقة، فهي مجرد خداع وتكتيك اضطراري لقيادة تحالف العدوان على اليمن، وهو ما لن تسمح صنعاء باستمراره، لاسيما وأن مقترح الهدنة يأتي في توقيت محلي وإقليمي ودولي حساس تصب مُعطياته في مصلحتها، ومع ذلك قبلت صنعاء بالهدنة وتمديدها مرتين تأكيداً لحُسن نواياها، وإعطاء فرصة لتحقيق السلام، بالإضافة لتخفيف المعاناة الإنسانية عن الشعب اليمني جراء الحصار المفروض.
لم تكن صنعاء عسكرياً بحاجة إلى هدنة توقف قواتها عن استكمال المرحلة الأخيرة من استعادة ما تبقى من محافظة مأرب، المعقل الرئيس لتحالف العدوان وأدواته المحلية، والتوجه نحو تحرير محافظات الجنوب، فقد كانت حاجتها للهدنة إنسانية بحتة تتمثل في التوصل لاتفاق في الملف الإنساني كأساس للانتقال للتسوية السياسية. وإدراكاً منها للحاجة الإنسانية المُلحة لصنعاء قامت قيادة تحالف العدوان بفرض حصار إنساني خانق وغير مسبوق خلال الفترة التي سبقت الهدنة، حيث منعت وبشكل كلي سُفن الوقود الحاصلة على تراخيص أممية من دخول ميناء الحديدة، الأمر الذي فاقم الكارثة الإنسانية في اليمن، لاسيما في قطاعي الصحة والنقل.
بالمقابل تُعد الهدنة التي مررتها دول تحالف العدوان إلى المبعوث الأممي إلى اليمن هانز غروندبرغ لتقديمها كمبادرة أممية عملاً اضطرارياً فرضه واقع الفشل العسكري للتحالف وأدواته المحلية، بالإضافة لواقع المعطيات الجديدة إقليمياً ودولياً، الأمر الذي دفع قيادة تحالف العدوان مُمثلةً بواشنطن والرياض وأبوظبي ولندن، وللمرة الأخيرة، إلى محاولة إعادة توحيد الصفوف المتشظية لما يُسمى "الشرعية"، من خلال الترتيب لمؤتمر الرياض الذي انطلق في نهاية آذار/ مارس الماضي وأفضى إلى الإطاحة بمنصور هادي كرئيس لتلك "الشرعية" المزعومة، وتشكيل ما يُسمى "مجلس القيادة الرئاسي" الذي ضم الأطراف التي تملك مليشيات وسلاحاً، ولديها مصالح وأجندات سياسية متناقضة، فالصراع والاقتتال الدائر في محافظة شبوة بين الأطراف التي تُشكل قوام المجلس، وهي المليشيا المدعومة إماراتياً ومليشيا حزب الخونج، يعكس الحقيقة الهشة للمجلس الذي سقط من الداخل في أول اختبار له.
على الصعيد الإقليمي والدولي، وفي إطار مراجعة الرياض لسياساتها ومواقفها الخارجية يبدو أن هناك رغبة سعودية متزايدة بالخروج من المأزق اليمني، فيما لا يزال موقف واشنطن من ملف اليمن والهدنة، التي وصفها الرئيس جو بايدن بأنها "إنجاز دبلوماسي أمريكي في إطار إدارة الملف والتهدئة، وليس الحل"، كما أصبح ذلك الموقف اليوم محكوماً باعتبارات وتداعيات الصراع القائم بين تحالف واشنطن وموسكو على خلفية العمليات العسكرية للأخيرة في أوكرانيا، وكذا التوتر القائم بين واشنطن وبكين، وما نجم عن ذلك من نتائج سلبية طالت إمدادات الطاقة العالمية رغم مساعي واشنطن لتخفيف حدتها، وضمان تدفق إمدادات الطاقة السعودية التي سبق أن تعرضت لضربات جوية نوعية قامت بها "قوات صنعاء"، وأدت لتوقف نصف إنتاج المملكة من النفط. بالإضافة إلى ذلك يُعد ملف اليمن أحد تعهدات الرئيس بايدن التي من شأنها تحسين شعبيته التي تراجعت كثيراً وفق استطلاعات الرأي الأمريكي، نتيجة فشله في إدارة عدد من الملفات الداخلية والخارجية، لاسيما وأن بايدن وحزبه الديمقراطي يستعدان للانتخابات النصفية المزمع انطلاقها في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، والتي ستكون بمثابة استفتاء مُبكر على أداء إدارة الرئيس بايدن، ومستقبل بقائه في البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية.
خيارات صنعاء ما بعد الهدنة
سعت قيادة التحالف لأن تكون مدة الهدنة الأولى ستة أشهر قابلة للتجديد؛ لكن صنعاء رفضت ذلك إدراكاً منها لنوايا التحالف الذي يُريد اختزال الهدنة في عملية وقف إطلاق النار دون أي التزامات جادة في الملف الإنساني، وذلك عبر اتفاق عام يفتقر للضمانات والآليات التنفيذية، لذا أصرت صنعاء على تجزئة مدة الهدنة لتكون شهرين قابلة للتجديد في إطار تقييم مدى التقدم والالتزام في تنفيذ الاتفاق الإنساني وتوسيعه. وبالفعل لم تلتزم قيادة تحالف العدوان بالاتفاق خلال الهدنة الأولى والثانية، ويتضح ذلك من خلال عرقلة وإلغاء العديد من الرحلات الجوية من مطار صنعاء الدولي، ومنع عدد من سفن الوقود الحاصلة على تصاريح أممية من الدخول إلى ميناء الحديدة، الأمر الذي جعل صنعاء مؤخراً ترفض تمديد الهدنة لولا تدخل الوسيط العُماني، والزيارة الناجحة لوفد السلطنة إلى صنعاء ولقاءاته بالقيادتين الثورية والسياسية التي أثمرت قبول صنعاء تمديد الهدنة شهرين إضافيين كفرصة أخيرة يتخللها التوصل لاتفاق موسع يحسم الملف الإنساني بما يضمن إنهاء الحصار وإعادة فتح مطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة دون قيد أو شرط، وصرف مرتبات موظفي الدولة، بالإضافة لتبادل الأسرى على قاعدة الكل بالكل، وإعادة فتح الطرقات.
التوصل لاتفاق موسع يُلبي المطالب الإنسانية المشروعة لصنعاء يؤسس لتمديد الهدنة ستة أشهر أخرى يتخللها تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، الأمر الذي من شأنه أن يقود لفتح الطريق نحو مفاوضات الملف السياسي الذي ينبغي أن تتعاطى معه صنعاء كحزمة وفق قاعدة "لا اتفاق ما لم يتم الاتفاق على كل شيء"، وأن ينطلق هذا الملف من أرضية مشتركة تُحمل قيادة التحالف مسؤولية معالجة آثار عدوانها وحصارها على اليمن، فيما تُقدم صنعاء المعالجات والضمانات المناسبة لإزالة هواجس ومخاوف الرياض، لاسيما الأمنية.
انطلاقاً مما تقدم، لا شك أن الجميع مدعو لصُنع السلام العادل والشامل الذي يُحقق الأمن والاستقرار لليمن والسعودية والمنطقة ككل. كما أن صنعاء مستعدة لعلاقات متكافئة ومصالح مشتركة مع الرياض وأبوظبي في إطار ثوابت السيادة وعدم التدخل. ولعل المتغيرات الجديدة في بنية النظام الدولي، والتي تُنبئ بنظام دولي يتجاوز الأحادية القطبية للولايات المتحدة ويتجه نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، تشكل فرصة سانحة لدول كالسعودية والإمارات للخروج من العباءة الأمريكية المترهلة، ووقف سياسة التطبيع مع كيان العدو الصهيوني، والتوجه نحو تكريس مفهوم الأمن الجماعي للمنطقة كمسؤولية تقع على عاتق دولها، دون الحاجة للحماية الخارجية.
ختاماً، لا شك أن موقف صنعاء الرسمي من تمديد الهدنة يرسم ملامح مرحلة ما بعد الهدنة، وهي ملامح لخصها تحذير رئيس وفد صنعاء المفاوض، الأخ محمد عبدالسلام، أثناء زيارته الرسمية لموسكو، بأن صنعاء ستضطر للتصعيد العسكري إذا لم تقدم الهدنة نموذجاً لحل إنساني، وهو تحذير يعكس جهوزية عسكرية عالية لصنعاء التي أعلنت أن هذا العام 2022 هو عام عسكري بامتياز، وهو إعلان سبق الحديث عن الهدنة، وجاء على لسان قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي في كلمته بمناسبة دخول العدوان على اليمن عامه الثامن، والتي ختمها بعبارة: "قادمون بجحافل جيشنا"، وهو ما ترجمته المؤسسة العسكرية لصنعاء من خلال إعلانها أعلى مستويات الجهوزية القتالية، وإضافة أكثر من عشرين ألف جندي ممن تم إعدادهم وتخريجهم في الوحدات العسكرية والأمنية التابعة لمختلف المناطق العسكرية التي شهدت عروضاً عسكرية ضخمة بمختلف أنواع الأسلحة، وجهت من خلالها صنعاء رسالة بأن إيمانها بعدالة قضيتها وتضحياتها من أجلها يجعلها بطلة الحرب والسلام.
* نقلا عن : لا ميديا