كثيرون هم أولئك الذين يمتازون بسعة معارفهم، وقدرتهم على التنظير في كل شيء، لكنهم يفتقرون إلى الإمكانية التي تحول ما لديهم من معارف إلى برامج عملية، أو منظومة تربوية تضبط السلوك، وتبني الإرادة، وتخلق وعياً بالناس والواقع، لذلك تبقى نظرتهم قاصرة، وتصرفاتهم هوجاء، وأعمالهم تتجه صوب الهدم لكل شيء في الحياة بدلاً عن البناء، قشوريون في كل ما يعالجون من مشكلات، ويطرحون من أفكار، ويتبنون من قضايا، ويتخذون من مواقف، ويحملون من مفاهيم، ويناقشون من أمور، ويحددون من ضوابط اجتماعية، ومعايير لتقييم أخلاق الناس، والحكم عليهم بموجبها بالفساد، أو الصلاح.
إن انعدام البصيرة لدى فرد أو جهة أو جماعة من الناس ينعكس تلقائياً على بنيته الذاتية، ليتجلى بعد ذلك في السلوكيات المادية والمعنوية، فما قيمة الحديث عن المبادئ السامية، والثقافة القرآنية الشاملة، مثلاً من قبل شخصيات لا تجد في واقعها العملي أدنى التزام بما تدعو إليه؟ إذ اكتفت بحفظ كم هائل من المعلومات، تماماً كجهاز تسجيل، لكنها قطعاً لم تعقلها، ولو أنها عقلتها لشكل ذلك حمايةً لها من الزيغ والشطط، ومانعاً لها من تجاوز الحدود، أياً كانت.
لقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تنفي العقل عن الكافرين، ومعلومٌ أن نفي العقل عنهم لا يعني أنهم خُلقوا مجانين، فعقولهم موجودة، ولكنهم عادةً ما كانوا يسلكون في كل أمورهم سلوك مَن لا عقل له، بحيث كان تعاملهم مع كل ما يحيط بهم من أمور وقضايا، على المستويين النظري؛ والعملي، هو تعامل الذين لا يملكون القدرة على ضبط نفوسهم، ولا ضبط الأمور من حولهم.
إن العاقل هو الذي يعي أن ما يحمله من فكر يجب أن يكون هو المعيار الذي يحكم نظرته وسلوكه، ويحدد له شكل التعامل مع العالم من حوله، بكل ما فيه من أفكار وأشخاص وتيارات، بحيث لا يظل منغلقا على نفسه، ينخدع بظواهر الأمور، لأنه ليس حيوانا، يرى الأشياء دون أن يفقهها، بل إنسان يرى الأشياء، ويحيط بها من جميع جوانبها، من منطلق الوعي، الذي يحتم عليه السعي لتحقيق الصلاح الشامل.
* نقلا عن : لا ميديا