في ذكرى المولد النبوي الشريف لرسولنا الأعظم –عليه وآله الصلاة والسلام- أعلن قائد الثورة المرحلة الأولى من التغيير الجذري، وهي مرحلة تؤسس لما بعدها من إصلاحات، وهي ضرورات سياسية واجتماعية أصبح الواقع يتطلع إليها بما يتسق مع الدلالة الثورية للمولد الذي أحدث تغييراً جذريًّا في بنية المجتمع العربي وفي البناء الثقافي والاقتصادي، وهو مجتمع كان يؤسس نفسه على الطبقية والتمايز وعلى الاستبداد والعبودية ويحتكر المال في يد فئة اجتماعية دون سواها، ويمارس شتى أنواع الاستغلال والغبن والقهر، فكانت ثورة الرسول الأعظم على هذا الواقع كشرارة ثورية انطلقت لكي تؤسس لواقع أكثر تكريماً للإنسان، الذي كان يعاني قبل الرسول الكريم -عليه وعلى آله الصلاة والسلام- من الغبن والاستغلال، تلك الثورة التي تمثلت بالرسالة السماوية إلى بني البشر كانت هي البداية التي أحدثت تبدلاً في حياة المجتمع البشري ومن معينها جاءت تستقي الثورات بدءاً من ثورة الحسين ومُرورًا بالثورة الفرنسية وظلالها على حركات التحرّر في العالم ولا نقول انتهاء بثورة 21 سبتمبر في اليمن فالفكرة الثورية فكرة متجددة، يتجدد أوارها مع تجدد الحياة والضرورات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.
اليمن التي عانت كَثيراً في زمنها المعاصر من التدخلات وتشابك مصالح المستعمر مع غيره في المصالح على أرضها وممراتها المائية وموقعها الجغرافي، من حقها أن تعيد بناء نفسها بما يتسق وتطلعات شعبها في الحرية والاستقلال وفي السيادة وفي النهضة الحضارية التي تؤثر في العالم ولا تتأثر بقيمه المنحطة ولا أخلاقه المبتذلة التي يسعى الغرب من خلالها إلى إذلال الشعوب وتحويلهم إلى كائنات مسخ دون قيمة بشرية ولا كرامة آدمية، بل جاءت الثورة لتحمل الخير والحق وبما يحفظ القيمة البشرية وصفة التكريم الرباني التي خص بها عباده من البشر الذين خلقهم في أحسن تقويم، وكرمهم وحملهم في البر والبحر فكفروا بأنعم الله وها هو يرسل إليهم آياته لعلهم يرشدون، فكم من مدينة اليوم أضحت خبراً وأثراً وقد كانت من الفارهين وفي ليبيا وغيرها من البلدان عبرة وآية.
فكرة الإصلاحات الجذرية، فكرة ثورية بالغة الأهميّة في عالم يشهد كُـلّ هذا الانهيار والتفسخ القيمي والانهيارات المتتالية، ويشهد صراعاً وحروباً وقضايا كونية ووجودية وانفتاحاً غير مسبوق، حتى نتمكّن من السيطرة على مقاليد المستقبل كوجود غير قابل للفناء، وكتأثير يقدم نفسه كنموذج بشري فريد يسهم في بناء الحضارة الإنسانية، ولا يسعى إلى تدمير الإنسان الذي كرمه الله وخلقه في أحسن تقويم، وقد وردت إشارات حول الفكرة في خطاب القائد بمناسبة المولد، ولا بدَّ من توسيع الفكرة حتى نحمل رسالة الله إلى العالم الذي يهرول إلى الرذائل وتدمير الإنسان، وتدمير إنسانيته ووجوده وكرامته، قبل أن تأتي الطامة الكبرى ولات حين مناص، وحين لا ينفع ندم ولا شفاعة ولا إصلاح.
وحين نتحدث عن الإصلاح الجذري في اليمن فالحديث لا يغفل عن اعتبار اليمن النواة التي إذَا صلحت ونمت، صلحت شجرة الأُمَّــة واهتزت وربت، فهي الحامل -منذ فجر الرسالة- للرسالة، وستظل هي الحامل الحقيقي لها، ومنها وبها تشع في كُـلّ العالم، كما كان الحال في سالف الحقب والدهور، فالتاريخ وكتب الأخبار والسير يتحدث عن الدور المحوري لليمن منذ قبل البعثة وما بعد البعثة، فالإسلام كدين إلهي سماوي منذ آدم إلى خاتم الرسل تفاعل معه أهل اليمن وآمنوا به، فما من دين سماوي إلا وكان لليمن فيه دور محوري، وكان لهم به إيمَـان ونصرة، حتى تبع اليماني كسا الكعبة إجلالاً وتقديساً وتصديقاً للنبي الكريم محمد -عليه وعلى آله الصلاة والسلام- وفق أوثق الروايات المتواترة، ولذلك فالنموذج الذي سوف نقدم عليه اليوم يفترض به أن يراعي العامل التاريخي ويستوعب الزمن المعاصر ويبني للمستقبل بما يتسق والدور التاريخي والثقافي.
نحن نعيش اليوم في واقع حضاري متعدد المستويات ولا بدَّ من الوعي بمثل هذا حتى نبلغ الأهداف منها، فالإصلاح الثقافي والأخلاقي يلقي بظلاله وأثره على النظم والتشريعات، وعلى الحياة بكامل أبعادها وعلى قيم الإنتاج والتفاعل مع الآخر، فكلما زاد الإنسان وعيًا زاد ثقةً وقدرةً، وحين نترك الواقع يمارس طغيانه واستبداده وغبنه فنحن نعلن استسلامنا له، ولذلك الغرب يخاف الإسلام؛ لأَنَّه يدرك أن مقومات السيطرة تكمن فيه، فهو ما يفتأ يفت في عضد الأُمَّــة، ويسفه فكرها ويحد من أثرها في مستوياتٍ متعددة، هذه المستويات لا بدَّ من معرفة أنساقها حتى نتمكّن من مواجهتها.
نحن اليوم على مشارف التجربة ولا بدَّ أن يصحب هذه التجربة حراك ثقافي وفكري موازٍ ونشط، فالفكرة هي بذرة كُـلّ نهضة.
*نقلا عن : المسيرة